صبر أيوب


أخذت عينا أيوب تتنقل في أنحاء الغرفة التنكية السقف، التخت المهترئ مكانه، يذكر يوم اشتراه بثمن بخس ليرفع به جسده عن رطوبة الأرض، الخزانة العتيقة ذات الأبواب المخلعة هي نفسها يوم أعطاه إياها جاره بعد أن ضاقت عليه الحياة، فترك كل ما يملك للجيران وسافر..
حبات المطر تنقر على السقف التنكي، فتدوي في أعماق أيوب، فيبصق على الأرض، ويتمتم شاتماً:
_ إلى متى سأبقى هكذا ؟
ودونما أي شعور أخذ ينقب جيوبه للمرة العاشرة، ولم يجد شيئاً. عسى أن يكون هناك قرش علق في زاوية من زوايا الجيوب! لقد طرده صاحب العمل بالأمس لأنه طالبه بزيادة أجره، والجوع بدأ ينخر أحشاءه، والمطر ينقر على رأسه!
أبو حسن قال له:
_ الفقر يتسكع في الشوارع! الغلاء يعربد في كل مكان، لازم تصبر يا أيوب!
وأبوه علمه قبل موته:
_ الحياة حلوة، الحياة بريئة براءة الطفل، الآخرون هم يلوثونها! نعم، هم يمزجون ألوانها، هم يفعلون، إنها بريئة، بريئة...
ويتساءل أيوب:
_ إلى متى سيبقى صاحب العمل يستعبدنا كل يوم، وفي جيبي لا أثر لقطعة نقود!؟
لم عبد المحسن يشمخ بسيارته، بينما أذهب أنا سبعة كيلومترات مشياً على الأقدام لأصل إلى المعمل، وفي آخر الأسبوع أعود بالباص ونحن محشورون كالدجاج!؟ وعبد المحسن يشمخ ويأكل الدجاج!!
سماه أبوه أيوب تيمنا بصبر أيوب، عسى أن يتحمل كما تحمل أيوب زمانه، ولكن صاحبنا أيوب تمنى اسماً له هو: عجول !
لم يكن أيوب من ذوي الصبر الطويل، فكم من مرة صرخ في وجه جاره أبي حسن:
_ أيوب مات، الصبر لحق به!
أبو حسن ذاك جاره منذ زمن قريب، تعرف إليه، فوجد فيه ما ينقصه، فأحبه، فكان يأخذه معه بين فترة وأخرى إلى جماعة من أصدقائه، وهناك يسمع أشياء كثيرة! وقد أولع أيوب بتلك الأحاديث حتى أنه كثيراً ما يلح على أبي الحسن أن يصطحبه دائماً إلى أصدقائه.
لقد حدثه أبو حسن عن جمال الحياة وروعتها، فكان أيوب يهز رأسه موافقاً، وأحياناً يقطع حديثه ليقول:
_ نعم! إن الحياة حلوة وبريئة، رحم الله أبي! هكذا كان يقول لي، لكن أولاد الحرام هم يفسدون براءتها! فتراهم فوق، ونحن تحت، هم يصعدون ونحن نهبط! قل لي يا أبا حسن ما ذنبنا حتى جعلنا فقراء؟!
وهنا تستنشط قريحة أبي حسن فيستطيب له الكلام:
- الفقر هو ذنب! أتدري يا أيوب بأن الفقر كفر ـ ويشده أيوب ـ بينما يتابع أبو حسن:
الكفر بكل القيم السائدة، بكل المفاهيم الدارجة، بكل الأساليب المهترئة، الفقر ـ يا أيوب ـ يعني الثورة، الثورة...
أمام هذه الكلمات يحلق أيوب في الفضاء! ينسى كل شيء حتى نفسه! ولئلا ينسى تلك الكلمات يرددها بينه وبين نفسه، وحتى يطمئن أكثر، يرددها أمام الآخرين خشية أن تضيع إحداها عنه!
وليس هذا كله فقط، إنما علمه أبو حسن أيضاً بأن الفقر كتاب ثوري، كتاب نظري تلزمه الممارسة فتصنع الثورة!
وشيئاً فشيئاً انقلب أيوب رأساً على عقب، فهو لا يفارق أبا حسن، بل أكثر من هذا، أعطاه أبو حسن ذات مرة كتابا صغير الحجم، وحذره من إطلاع الآخرين عليه، فكان أيوب يخبئه بحذر شديد بين طيات ثيابه، وما هي إلا أيام قليلة حتى حفظه عن ظهر قلبه! كيف لا يفعل ذلك وهو المولع بفهم ما غاب عنه وعن أبيه وجده! لقد غدا أيوب إنساناً آخر، هكذا يقول أهل الحارة عنه، ولا سيما من عرفه قبل مجيء أبي حسن وكلهم كان مشغولاً بسؤال أيوب والذي أحرج به أبا حسن:
_ كيف نغير الواقع نحو ما نؤمن به، ودون تجاهل لهذا الواقع الحاضر، إن لم نلم أنفسنا وننظمها ونعمل بصدق وإخلاص!؟
صحيح بأنه كان في الوقت نفسه مقتنعاً من أبي حسن بأن هذا الواقع الحاضر هو نتيجة تاريخ طويل، تاريخ المئات من السنين وما حملته من مفاهيم وأفكار، فما يرى ما هو إلا ترسبات ضاربة جذورها في الأعماق البشرية، وليس الأمر يوما وليلة، وليس الأمر مجرد رفض فثورة! إلا أنه كان يحاجج أبا حسن فيقول له:
_ الأمر رفض،فبرنامج، فعمل منظم ومستمر. نفس طويل وصبر أطول، الزمن معنا، القضية قضية إيمان وعمل.. كل هذا على رأسي وعيني! ولكن متى نبدأ ؟!
فيجيبه أبو حسن: صبرك يا أيوب! صبرك!
أهل الحارة كلهم لاحظوا تغيرات أيوب، فبعد أن كره الحياة فيما مضى أضحى الآن يحبها بل ويعشقها، ولكنه يكره ويلعن من يمزج ألوانها.. وكلهم يتهامس عن كلامه الجميل عن الواقع، والمستقبل القادم بواقع جديد، وكلهم معجب بتفاؤله الشديد!
والجميع يذكر يوم عاد إلى الحارة ذات مساء وهو يشتم ويلعن، فتحلقوا حوله:
_ خير إن شاء الله يا أيوب!
_ أريد أن أفهم أهم على حق! أم الكتب وثورات الشعوب!؟
_ كله خير يا أيوب!
_ والله يا جماعة، ضاعت الأمور، أحس بأنني أدور في الفراغ، نفسي تقطعت!
_ الله كريم يا أيوب!
_ أيامهم كلها حكي بحكي، وأنا بقولهم: طيب وبعدين!
ويومها اقترب أبو حسن منه وصاح في وجهه:
_ كلامهم صحيح يا أيوب! ...
_ طيب يا أبو حسن مش لازم نظم أنفسنا ونخلي الفقرا توقف معنا! مش لازم نفهمهم ونوعيهم، مش بتقولوا هم اللي حيصنعوا الثورة ؟!
_ صبرك يا أيوب، صبرك! ما انت عارف الواقع وصعوباتو!
_ يا سيدي تحملت الكثير وأنت عارف، تحملت عشان سمعت كلام كله حلو تمنيت أنو يكون؟ لكن امتى؟ امتى حنطبقو؟ وأنت شايف متلي، ما نحنا غشم عابعضنا و..
قاطعه أبو الحسن:
_ لا يا أيوب أنت مخطئ!
_ اسمع يا سيدي! بتسكت وله أحكي شو عما يصير عنا بين الحكي الحلو وبين العمل الـ...
فقاطعه أبو حسن، إلا أن أهل الحارة لم تعجبهم مقاطعة أبي حسن لكلام أيوب فصرخوا:
_ احكي يا أيوب، احنا مصدقينك، أنت واحد منا!
فأخذ أيوب يحكي كل ما في قلبه وقد امتلأت عيناه بالدموع!
يومها فقد أبو حسن أعصابه الهادئة وكاد أن يضرب أيوب، إلا أن أيوب لزمه الصبر! ومنذ ذاك الوقت ساءت الأمور بينهما، ومن بعدها ترك أبو حسن الحارة كلها ورحل عنها.
المطر ما يزال ينقر على السقف التنكي، وأيوب ما عاد أيوب، لسانه اندلق في كل مكان! ولم يعد يخشى شيئاً! وعبد المحسن صاحب المعمل الذي كان يعمل لديه منذ شهر طرده بالأمس، لأنه أقنع العمال بالاضراب عن العمل ،حتى يزيد عبد المحسن أجورهم، لقد طرده وتوعده! ولما لم يعطه أجره عن أيامه الأخيرة ضربه، فهرب عبد المحسن إلى غرفته، وأغلق عليه الباب واستنجد بالسلطة! فهرب أيوب على كره منه تلبية لنصيحة رفاقه العمال ولزم بيته..
الجوع ينهشه، والمطر ينقر على سقف غرفته، وعيناه تجوب أحشاء الغرفة، وأذناه تتابعان صوت سيارة تقترب من بيته، وكلما ازداد اقترابها، ازدادت دقات قلبه إلا أنه استعاد أيوبيته عندما شعر بأنها توقفت أمام بيته.
_ إذاً وصلوا أخيراً !
الباب يطرق بعنف، فينتصب أيوب بكل شجاعة ويتقدم نحوه بهدوء وببرودة أعصاب، ثم يفتحه، فيندفع رجلان إلى الداخل ويرميه أحدهما أرضاً بكل ما أوتي من قوة ويسأله بكل غطرسة:
_ أأنت أيوب الزفت؟!
فينهض أيوب بكل عنفوان ملوحاً بقبضته:
_ نعم أنا أيوب! وعارف أنكو حتيجو، يله خدوني، صاحب المعمل كلب ابن كلب، وانتو كمان كلاب لأنكم خدم الوه!...
وبعد جهد كوموه في السيارة وهو فاقد الوعي، وانطلقوا مسرعين مجتازين الحارة، مخلفين وراءهم عيون أهل الحارة، وهي ترمقهم بتحد مريع تحت المطر.