من هو الملاك؟ومن الشيطان؟ وأيهما نحن؟ وإن لم نكن هذا ولا ذاك أليس من الممكن أن نكون هؤلاء من رووا بداخله بذرة الشر فصار شيطانا؟ وتغاضوا عن حق الآخر المهضوم فاغتالوا البراءة؟


شعرت بالضجر فتوجهت إلى الشرفة على أتنفس هواء نقيا يبدد ضيقي ويذهب بضجري, و لكن لهول ما وقعت عليه عيناى شعرت بيد باردة تقبض على قلبي بقوة..كانت طفلة لا تتعدى سنوات عمرها الثلاث بزى مهلهل ممزق لايقى من برد..حافية القدمين تجرى بخطوات متعثرة لتتفادى ضربات أختها المتوحشة.كانت هي الآخرىطفلة في حوالي التاسعة من العمر..ليس حالها بأفضل من أختها, ولكن نظرات متوحشة كانت تطل من عينيها وغضب جامح باد على وجهها تنفس عنه بضرب أختها المسكينة بمقشة لا تقو هي نفسها على حملها.

أخذت أرقب المشهد بدهشة وخوف بالغين.. كانت المسكينة تبكى وتصرخ وتتفوه بكلمات لا يمكن تفسيرها من كثرة البكاء..كلمات استعطاف ربما أو استنجاد..وصل الأمر بأن سمعت شهقاتها وهى تأخذ أنفاسها بصعوبة, وكأنها تسترقهم خفية..تحول البكاء إلى نحيب.. والنحيب إلى عويل ولا مجيب لصرخاتها سوى ضربات من تلك المقشة اللعينة..أشد قوة وأكثر وحشية.شعرت بالدماء تغلي في عروقي, وبرغبة عارمة لتبديل ملابسي والخروج, لأسحق بيدي تلك الشيطانة الصغيرة. صراخ المسكينة ينزف قلبي, ويعذب روحي..أما من مغيث؟..أين أبوها؟..أمها؟.. أخواتها؟..بل أين الناس؟!.وحولت بصري إلى الشارع بأكمله..فرأيت كلا يسير في طريقه, ويزاول عمله:البائع ينادى..الأطفال تمرح..والحال مستمر كأن ليس هناك شيئ.

فجأة حدث ما لم أكن أتوقعه..لم تكف الفتاة عن ضرب أختها بالطبع ولكن أفلتت منها المقشة.أسرعت إليها المكينة لتلتقطها ورفعتها في وجه أختها..شعرت بالأمل يتسلل إلى قلبي, ولكن هيهات!..أخذت الشيطانة الصغيرة تدفعها بقوة وتجذب منها المقشة..بينما يتشبث بها هذا الملاك البرئ كآخر فرصة للنجاة..أخذت أرقب عراكهما-الغير متكافئ-كمعركة حامية الوطيس..لم تحاول المسكينة ضرب أختها بالمقشة, فقط حاولت منعها من إيذائها..ومع ذلك وبمجرد أن استردت المقشة هوت بها على الجسد الصغير..بلا رحمة..بلا شفقة..بلا هوادة..وكأنه عقاب لرفضها الاستسلام..عقاب لمحاولتها الدفاع عن إنسانيتها المهدرة!

لم تجد بدا سوى الاندفاع عبر الطريق, بين العربات المسرعة.. تحاول الفرار..تعالت أبواق السيارات منذرة بالموت القريب..أخذت أرقيها بعينين زائغتين, بينما ينتفض قلبي بين ضلوعي جزعا, وقد امتلئت رعبا. بدت بجسدها الضئيل كعصفور صغير بين الذئاب..وأخيرا صدر صوت عال مفزع,ودون أن أرى عرفت معناه!..شعرت بقلبي يهوى, والأرض تميد بي.. تشبثت بسور الشرفة كي لا أسقط...وبعد تردد ومعاناة نظرت إلى الشارع فوجدتها ملقاة على الأرض بعد أن نالت منها السيارة اللعينة.. وعندها- وعندها فقط- تجمع المارة وتعالت الصيحات..هرولت أمها إليها لترى ما ألم بها..بينما وقفت الشيطانة الصغيرة ترقب الأمر بهدوء من بعيد..انسحبت من الشرفة بصعوبة بالغة ورأسي يدور...

كان قد مر أسبوع كامل على هذا الحادث قبل أن أتمكن من الخروج إلى الشرفة مرة أخرى.المارة كل في طريقه..البائع ينادى..الأطفال تمرح.. السيارات تعبر بسرعتها الجنونية..والد الفتاة يقف في الكشك ويتعالى ضحكه مجلجلا..أمها تثرثر مع إحدى صديقاتها..الساحرة الشريرة تلهو بمقشتها متصنعة البراءة..بينما هناك في ركن هادئ بعيد, يجلس الملاك البرئ وحيدا ليتحسس جراحه ويبكى في صمت...


18/5/2004