انتقلت منتديات لكِ النسائية إلى هذا الرابط:
منتديات لكِ النسائية
هذا المنتدى للقراءة فقط.


للبحث في شبكة لكِ النسائية:
عرض النتائج 1 الى 2 من 2

الموضوع: المتقلب في منامه الجزء الأول

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    الردود
    32
    الجنس

    المتقلب في منامه الجزء الأول

    المتقلب في منامه

    قصة: عبد الواحد الأنصاري

    ضمن مجموعتي القصصية التي سوف تصدر قريبا إن شاء الله: الأسطح والسراديب.

    سيقدّم الإخوة الزوار قراءة نقدية لها يوم السبت القادم 14/3/1426هـ بعد صلاة العشاء بالنادي الأدبي في الرياض، والدعوة للجميع مشاركةً في القراءة وحضورا



    إلى الصديقين الأفريقيين اللذين غيّبهما عني الرحيل:

    صديقي الذي داهمه الفقد فاختار النفي: موسى حامد، وله أقول: (ليكنْ عزاؤك أن الأطلال التي خلفتها وراءك لم تعد تعني شيئا بعدك).

    وصديقي الغائب: الشاعر محمد موسى، الذي أخبرتني مقاطع الحنين في شعره أنه لن يعود، وله أقول: (عسى تجمع الأيام بينك وبين هذه القصة فترى فيها مقاطع شعرك التي استحوذتْ عليّ).

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    قال المتنبي:

    عـواذلُ ذاتِ الخـالِ فـــيَّ حـواســــدُ

    وإنّ ضجيعَ الخوْدِ مني لــَمَــاجـــــــدُ

    يردُّ يداً عن ثوبها وهو (قــــــَــــادرٌ)

    ويعصي الهوى في طيفها وهو (راقــدُ)!

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ



    هذا صباحٌ أبيض، وإذنْ فجدران البيت البيضاء ستبدو حليبيّة، وفي ارتداد الفناء الخارجيّ لا تجد الشمسُ منفذاً؛ لأنّ منفذ المنزل شماليّ وجداره مرتفع، ومن الشرق والغرب تحف به بيوت أعلى منه. اليوم تنفّس الصبح وفي بقعة الفناء ندىً جمانيّ كقطرات العرق، ودجاجة رصاصية منقطة بالأبيض تقترب من شذى البلاط وكأنها تشمّ، إنه تأثير البرودة وقطر الندى على مربعات الأرضيّة الناعمة كرخام مصقول، في بكور نهارٍ يتوعّد بحرارة حارقة لأن الدنيا على وشك الدخول في أنواء الصيف. وكلما ابتعدت الدجاجة وخفت نقيقها هبط عصفور يلحق به نظيره، يستأنفان التشمّم الذي بدأته الدجاجة، منتعشيْن، تنطلق من حناجرهما الحادّة زغردة حذرة كأنها لم تصدّق بعدُ بوجود هذا الانتعاش الذي تقف عليه. ويُسمع صوتُ خطوات إنسان يمرّ من خلف الجدار فتسارع الدجاجة الخطو إلى مدخل المنزل حيث الصالة الخالية إلا من الصدى، يميزها هذا الحذر الفطري، فتتوارى عن مجال الخطى التي تسمع وقعها من الخارج، ثمّ تنقّ في قلق ظاهر، ويرتدّ صدى نقيقها في الصالة فيطير العصفوران، ليدورا بضع حوماتٍ في الفضاء ثم يعودان بعد اطمئنانهما إلى البلاط البارد.

    **

    كلّ هذا وهو يتقلّب في منامه، ويحلم أحلاما خافتة ليس لها من الوضوح ما يجمعها في حدثٍ واحد يحتويها، وكأنما هي أصوات الفضاء العام أو إيقاع تنفس المدينة. ولعلّ هدوءاً كهذا يفسح للأصوات والأصداء البيتيّة فرصة لأنّ تبدو أكبر أحجاما وأقرب إلى الاستقبال في دائرة ما تلتقطه حواسّ هذا النائم. إنه يسمع، لكنه رأى أنّه يخطو ويرى ويسمع! مشى وصدى خطواته يحفّ به؛ مرّت الدجاجة من بين قدميه، رافعا لها ثوبه لتمرّ من بينهما بحنان، كأنما تمسّد جسمها بسراويله، وعلى سبيل مداعبة للذكرى وطأت سبّابة قدمه اليسرى قبل أن تستأنف مسيرها مصعدة، فأحسّ بألم كأنما دُقّت أصبعه على حصاة، وحفّ به العصفوران فدارا من حوله ودار معهما، ومدّ أمامه ذراعيه في حركة يعني بها استدعاءهما ليحطا عليه، ثمّ رفع ذراعيه كغصنيْن فتيّين، فاستجاب أحد الطائرين -ولعله كان

    أجرأهما- وحطّ عليه، تسمّر الرجل في مكانه برهةً، ثمّ تحرّك إلى الأمام كمن يسير نائما، واستقرّت به طمأنينة لأنه كان مركّزا نظره عليهما، وهما يتشممان ذراعه ويداعبان زغبه الخفيف بمناقيرهما! كأنهما يلتقطان حبّاً، قال: خُلقت العصافير لالتقاط الحَب، وحتى لو لم تجده فستتظاهر بوجوده ثم بالتقاطه! وبلغت به طمأنينته واستغراقه في المشهد حدّا جعله ينسى ما تحته ويرتفع في الفضاء.

    **

    لكنْ أعاده إلى فسحة بيته صوت صبية صغار، طيّر العصفورين بحركة كالتي ينفض بها ذبابا عنه، وأعاد مرفقيه فعقدهما أمامه، وسمع صبيّاً يقول:

    - أنا مستعدّ لدحرجته إلى الوادي أو تلطيخه بالنفايات.

    رد صبي غيره:

    - أخشى أن تهرب.

    أجاب مؤكدا:

    - الحمار هو من يهرب.

    قال في نفسه: حسبي الله، أهذا ما تُعدّه مساكننا الوادعة للغد؟ ثم خرج فتفرق صبية سودٌ عديدون، وقد توقّع من سيكونون من لهجتهم الجنوبيّة ودقّة أصواتهم، وهو يعرف من هم ومن أيّ زقاق خرجوا إلى الدنيا، كانوا رهطاً بين ثلاثة وخمسة، ووجدهم وقد علّموا سيارته بقلم خط أزرق عريض: رسمٌ رديء لجمل غير مكتمل، وخلفه دائرة مُطْلقة فارغة! ملأه الغيظ! بمَ أزيح هذا الأثرَ؟ ببخّاخ أبيض؟ ولكنه لون يستر لوناً وليس إزاحة للأذى بكامله، ثم اختار أن يفكر في الأمر لاحقا.

    **

    استنشق الهواء الرطب البارد، وامتدّت أمامه أرض ترابية سلبيّة، تتّحد عند حد الأفق بسماء صافية وكأن المحيط الذي يشغله ليس إلا جزءا من امتدادها وهو في مركز الفضاء السديميّ، ولشدة التناسق شعر أنّ وزن الكتلة في أي مكان سيذهب إليه سيكون مطابقا لوزنها في الموضع الذي سيغادره، وسيكون في مركز العالم دائما.

    ويرنّ هاتفه المتنقّل فيتململ في موضعه، وكأنما نقص عليه هذا الصوت الدخيل من فسحة الفراغ غير النهائي الذي يسبح فيه، أو كأنما تطفّل عليه فمٌ آخر ليشاركه بفظاظة في تنفسه هواء ذلك الفضاء المبهر في فساحته وسلامه. وتسلل إليه من التنغيص ما لا يقلّ إزعاجا عن دبيبِ ذبابة على الوجه أو هياج عطاس عنيد في الخياشيم! وهنا لجأ المتقلّب في منامه إلى حلول الحركات الرافضة؛ لعلّ الحركة تقصي عنه بأصواتها وأحاسيسها الخاصة بها ما ينفي عنه ولو نزرا يسيرا من حدّة الصوت الذي اخترق سكينته؛ فرفع رجليْ زوجته النائمة في وضع استلقاء وأراحهما فوق رجليْه، وكان منها هي أنْ شعرت بوجوده بعد أن كان استغراقها في النوم يبعدها عنه بضع خطوات على الأقل، تقبّلت المرأة هذه الحركة بودّ نبيل ومشبع بالعرفان، وأصدرتْ صوتا مداعبا، وكاد هو أن يستيقظ على وقع صوتٍ جديد ينبثق من داخل صُلبه هذه المرّة، ولكنّ حبل النوم جرّه بوداعة إلى أحضانه فاستسلم وهمد وانتظم تنفّسه. ثمّ عاد الرنينُ قويّا، وجاء وقعُه الملحّ متأبطاً صيغة من إحدى صيَغِ النداء الصوتي، كأنه صوت مؤذّن أو مستغيث، وهذه رسالة أوحتْ إلى خياله المنطلق بفعل غياب الوعي الخارجي: أنْ يدمجَ تفاصيل هذا الصوتِ بشيء من توقعاته: من يكونُ هذا المنادي الملحّ؟ وهو إنسان بلا شك فهل هو ذكر؟ ليس لي ارتباطات ولا أقارب يريدونني في هذا الوقت إلا أن يكون أحدٌ قد مات! هل يكون المتصل هي؟ غمره وهجٌ غسل بحرارته كسله، واعتراه خوفٌ من تركِها تناديه كمستغيثة من قعر جبّ وهو يتناوم هكذا، كم هو شائنٌ أن تنصرف كسيرة النفس محبطةً بسبب كسلٍ غير مبرّر منه.

    قفز بطريقة ارتفعت معها قدما زوجته في الهواء وعبر من تحت عرَقهما نسيم الغرفة، ثم هبطا بقوة واصطدما بالفراش، فأصدرت أنة هي بين الاحتجاج والسؤال: لماذا؟ وتحرّك بحيوية المرتاع ورفع الهاتف قائلا: ألو؟ كان هذا صوتَ صديقته، ولم يفطنْ هوَ إلى أنه ما زال يتقلّبُ حالماً! وأنّ وعيَه -إن لم يتنبّه سريعا- سيورطه في اعتراف بالخيانة، على مقربة سنتيمترين من أذن زوجته، وهاهي تتحرّك على وقع همهمة صوته، بعد أن أزاح رجليه من تحتها، وما زالت متململة في نومها بتأثير الطريقة الفظة التي أزاحها بها عنه! قالت التي عبر الهاتف:- لماذا لا تردّ؟ هل أنت مشغول؟ هل عندك أحد؟ قال: لحظة يا عبد الله، سأكلمك فيما بعد.

    كان واقفا في الصالة الآن، ويرى الدجاجة تبتعد عن مجال حركته المرتبكة، وعاد مشياً وهو يحاول أن يتخلّص من محاصرة قلقه، ولما استدار وجد زوجته في وجهه تهزأ:- عبد الله، هاه؟ عبد الله؟ لم تضعفه الصدمة بل تحرّك في جوفه شلاّل من الغيظ، شلاّل يتدفّق إلى الأعلى، نافورة، وينتشر في الأطراف، مطر زوبعيّ؛ كيف عرفتْ كلّ شيء وهيَ لم تسمعْ شيئا؟ من عادتها أن تفاجئه بمعرفتها بما فعله بعد مضيّ قرونٍ من اكتشافها له، وبعد تعذيبه طوال فترات من المراقبة المتوجّسة والتلميحات المحملة بشتى التضمينات الساخرة، وبعد أن ييأس تتركه حتى يذهب إلى العمل، ثم تهتف له بصوت هادئ مزدرٍ:- أعلم أنك تكلّم امرأة. في هذه المرة تقف أمامه:- عبد الله، هاه؟ هاه؟ غاظته هذه القدرة التي تمتلكها، وأنشطته هذه النافذة التي تفتحها متى شاءت على أغوار سريرته فتنتزعها بكل اقتدار. واستبدّ به الاغتياظ فلوح بيده في الهواء وصفعها، لم يتحرك منها شيء ولم يبد أنها تألّمت، حتى شعرها بقي ثابتا على حاله، وعنقها مستقرة على جذعها بشمم كالزاوية القائمة، كأنما رقبتها لوح من رخام صلد:- عبد الله، هاه؟ وجذعها مسربل بقميص البيت العُماني الأحمر، الموَشّى حوافّ الأكمام وجيب العنق بخيوط ذهبيّة، وشعرها مسرّح بطريقة كرات هرميّة بعضها فوق بعض تزيد من طول قامتها فتضفي عليها مزيدا من التسلط، وتلفح أنفاسها وجهه، فيشعر بحاجة ملحّة إلى الفكاك كإلحاح الحاجة إلى التخلص من الخنق. النهار في طريقه إلى التوهّج، والصيف المقبل في الشهر القادم يتعجّل فرصته للحضور قبل موعده، وإذا أشرق المنظر على وجهها وجَلَدَتْه بسياط عينيها فستكون ساعة موته.

    إنه ما يزال يتقلّب، وهي بجانبه تشعر بعسر تنفسّه وانتفاضة أطرافه، فتحنو عليه وتميل مريحة ذراعها اللينة المتعرّقة على خصره، وأحس هو بشيء يمسك به محاولا جره إلى الخلف وإسقاطه، فاستثار كل طاقات رفضه، واستجاب الكون على غير العادة فتراجع النهار وهبط ليل لا ظلام فيه، وكأنما اقتربت نجومه من الأرض أو أن الأرض ارتفعت حتى دنت من أجرام السماء.

    **

    خفّ وزنه على إثر هذا التحوّل، وأيقنَ بانسياب الحركة وحريّة التغيير التي أضفتها عليه استجابة الكون لوجعه الذي استبدّ به منذ قليل، فراق له أن يخف أكثر، وتمنى على نفسه أن يتقلّص حجمه، وكانَ له ما أراد، فبدأ كيانه الجسماني يرقّ وكأنه صوتٌ يخفتُ شيئا فشيئا، حتى استحالت كتلته إلى ما يشبه شرشفا معلقا بمساكة على حبل غسيل، رفع يده وفكّ المساكة عن رقبته، وحكّ موضعها، وأراد أن يطير طيرانا حرّا، فرفعه الهواء، وانسابت به الحركة في غير تحكّم في البداية، لكنّه ما لبث أن أمسك بزمام أمره وصار يوجّه تحليقه الحليم الوديع بنظرِهِ وحدَهُ. ثمّ حلّق في ارتفاع منخفض، ووصل به مشواره المنسرب إلى مشارف شمال المدينة، وضحك وهو يخترق الفجوة المفتوحة في منتصف بناية كبيرة تُعدّ ناطحة المدينة، لقد اخترق دلتا هذه الفجوة مبتسما وكأنه يعوم في مجاهل بِضع امرأة، وتحته هذا الليل البهيج الذي يشبه بكور صبح غائم، وتمتم: هذا أجمل ليل رآه العالم. وسمعته وهي بجانبه وقد خفّ منامها بقدر ما يستجد من حركة جسمه النشط، فأجابته وهي ناعسة: تتكلم وأنت نائم؟ هذا الردّ تحوّل بتحليقه عن مساره، وانتقص من قدرته المطلقة على توجيه ذاته، ومال به قليلا إلى جهة الشمال الغربيّ على حافّة طريق مشجر الجوانب، تمرق منه سيّارات مندفعة لها أزيز، والجوّ مغرِبيّ متحرك الهواء، مضاء هذه المرّة بمصابيح صفراء.

    **

    اقتنع بأنّ صديقته تجلس في حلقة عائلية وراء هذا الشجر المطل على ناصية الطريق، وحدثته نفسه بالاقتراب واختلاس النظر على أمل أن يجد فرصة ينتهزها أو لقاء يختطفه، وتقدم مسافة يسيرة على الأرض النديّة، فشمّ التراب المبلول قبل أن يلطخ باطن قدمه وعلقت به أوراق جافّة لها خشخشة، ومن تحت الشجر ينبثق ضوءٌ صُمّم لكيْ يلفت النظر إلى جذوعها، عبر شبحه الذي يمشي الآن من بين هذه الأضواء وتجاوزها إلى مساحة أكثف شجرا ولكنها مظلمة، ضيّق عينيه وأمعن وإذا بجندب برتقالي ضخم يبرز إليه الآن من حوض نخلة مغروسة وملفوفة بالخيش ومائلة إلى الشمال، تراجع ليس حذرا من الجندب الذي ظهر في غير أوانه -ربما لأن وعيه استطاع إسعافه بأنه كائن غير واقعي- لكن خشيَةً من أن يتعثر به حظه في أحد أقارب صديقته، فلا شيءَ يخيفُه كنظرة ازدراء توجه إليه بوجه حقّ.

    **

    استلهم من ضيقه روح المعاناة، واستجدى من طاقات نفسه برغبة باكيةً ذليلة أن تتيح له الطيران مرة ثانية ردد بمذلّة وكأنه يحفر برجائه في جدار طيني: أريد مغادرة هذا الموضع. وكانت زوجته تسمعه الآن بأذنها وليس بعقلها الموثق بغفوتها المستمرّة، وقد استسلمتْ لها الآن، فلو حاولت أن تفهم ما يقوله لكانت صعوبته عليها بمثابة حل فوري لجدول الكلمات المتقاطعة دون الرجوع إلى البيان المصاحب! لقد غاب عن الرجل طيلة حياته الزوجية -لحسن حظ هذه المرأة- أنها كانت تقتنص منه نداءات الحبّ التي يوجهها إلى صديقاته وهو صريعٌ بكؤوس نومه، وتكُون هذه الهتافات المتلهفة المشبوبة كمفتاح باب أو طرف حبل لا يلزمها إلا تتبعه لكي تصطاده؛ والواقع أن طمأنينة عامٍ كامل، سلك فيه زوجها سلوكا نظيفا غير مريب، وعاشرها فيه عشرة حبّ ثملة، هي التي خفّفت من تيقّظها لما يجري، وزاد من الأمر أنّ هذيانات نومه طيلة ذاك العام كانت باكية ومحمومة بقبلات يمطرها -هيَ- بها، وغالبا ما تؤدّي إلى التحامٍ عشقيّ لا نظير له. ثم: لعلّ عقلها الداخليّ يستظهرُ أنّها وكّلت عليه في داخل أحلامه رقيبا صارما يفسِد عليه كل مُتع النوم فضلاً عن أن تتيحَ له نفسيّته النادمة أن يعودَ إلى خيانتها في الواقع. وبرغم ذلك فإنها ظلّت طيلة العام المنصرم تتظاهر بأنها عفتْ عنهُ كرما، وبأنها لم تفقد حيطتَها بعدُ، غير أنّ الحقيقة هي أنّها اقتنعت فقط بسحب جرحاها من المعركة وبالبداية من جديد، إيمانا منها بقدرتها على استعادته من طيشه، و-مؤكَّدا- لأنه لا يستطيع العيش بدونها حتما، وهي ورقة ثمينة تستحقّ أن تقلّبها بين أناملها طويلا. ومن بعدُ: فلا شيءَ أشدّ قدرة من النوم على تزوير ما تتلقّفه الحاسّة المشتّتة بالنعاس، ولا شيء يمكن أن يشبه الشيطان تزويرا للمدارك مثله! وأخيراً: لقد أزاحت شعر جسمها في الليلة الفائتة، وفردت رجليْها على الفراش المجاور له في حركة معناها: هلمّ، وهي مشغولة الذهن -حتى في نعاسها- بانتظار هجمة شرسة منه وليس إعراضا أو خيانة، وما زال بالقربِ منها وهي مستنيمة إلى طمأنينة هذا القرب. فلعلّ كلّ ذلك أفقدها حيطتها وغيرتها، ولو مؤقّتا؛ والآن انقلبت وأدارت وجهها جهة الحائط وقد تدلت شفتاها ومال لعابها إلى جانب وأنفها يستنشق من الوسادة رائحة شعرها، وهي ممتلئة بحيوية تنتظر الاستنفاد، فيما واصل الرجل تحليقه.

    **

    منساباً كظل طائرٍ مرّ على صفحة ماء، غير أنّ الوجود تطبّقه ظلمة لا أجرام سماويّة تلطّفها، وقال: كان الليل إذا قتل الشمس وزّعها قطعاً صغيرة في ثنايا جلبابه، والناس يدعونها نجوماً، لكنّه اليوم حزين جدّاً أو غاضبٌ! لم يلُح في الأفق ضوء غير ذلك الذي يحتضن فتحة البناية الشاهقة، الفتحة الأسطورية، ضوء يتبدل كل دقيقة، وليس كل دقيقتين -كما كان يراه في صحوه- وفهم الأمر على أنه تعديلٌ أجروهُ لزيادة لفتِ النظر، هاهو يتبدل، من الضبابي الحالم إلى أبيض، ثمّ أزرق فاتح، ثم سماوي، وهذا هو أخضر عشبي، ثم زيتيّ فيه دكنة، وأخيرا توصّلنا إلى ضوء بنفسجيّ له رائحة المخمل الجديد، عبر مجددا في بضع المرأة، أو في هذه الدلتا التي يشبه سقفها مقبض حقيبة، وأخذ به سحرُ الأضواء وانقلب كأنما يسبح على ظهره، وألقى بعنقه إلى الوراء وهو مستلقٍ، فرأى وراءَه طائرة مروحيّة سريعة، تضمّ موكبا سامياً، هاهو يا سادتي يريح الطريق المختنق الذي يوقفه نصف ساعة قبل ذهابه وإيابه ويجرّب التحليق والنظر إلى من وكّل بهم من أعلى، يا أهلا وسهلاً، وستندرجون في موسوعة الأرقام القياسيّة أيضا، أوّلَ من عبروا إلى رحم امرأة تحت ضوء بنفسجي يغري بالاسترخاء، وعلى صهوة طائرة مروحيّة.





    الكاتب نادي في 18 إبريل 2005 في 10:20pm - IP Logged



    نادي
    عضو جديد


    Saudi Arabia
    05 مارس 2005
    28 (عدد المشاركات)


    الأخ القاص عبدالواحد الأنصاري
    جميل أن تضع كتاباتك هنا
    خصوصا أن مناقشه هذه القصة السبت القادم ولكن أعاتبك حيث أنك وضعتها متأخراً فلماذا لم تحرص على وضعها بوقت مبكر حتى يتمكن شريحه كبيره من القراء من نقد ما كتبت ، نرجو لك التوفيق وإلى الأمام



  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    الردود
    32
    الجنس

    للتواصل

    أسهل طريقة للتسجيل في مجموعة نادي الرياض الأدبي البريدية فقط أرسل رساله فارغة للعنوان التالي
    aladabi-subscribe@yahoogroups.com
    وبعدها خلال ثواني ستصلك رساله طلب تأكيد تسجيل
    أعد أرسال نفس الرساله عن طريق الضغط على زر
    Reply
    فقط ومباشرةً ً سيتم تسجيلك وستصلك خلال ثواني رساله ترحيب بالإنضمان للمجموعة بإذن الله أهلا وسهلا بكم
    http://www.adabi.org.sa

مواضيع مشابهه

  1. نهر الراين _ الجزء الأول
    بواسطة om-talha في ركن الصور والتصوير الفوتوغرافي
    الردود: 7
    اخر موضوع: 26-07-2009, 05:18 PM
  2. قصة قمر خالد الجزء الأول
    بواسطة إماراتيه وفتخر في نافذة إجتماعية
    الردود: 0
    اخر موضوع: 03-08-2007, 04:33 PM
  3. كيف تتغلبين على مزاجك المتقلب؟؟؟
    بواسطة الخلايا الوردية في نافذة إجتماعية
    الردود: 4
    اخر موضوع: 27-12-2006, 09:01 PM
  4. مواقع من كل فن طرب (الجزء الأول)
    بواسطة *hodhoda*MA في ركن الأشغال اليدوية والخياطة
    الردود: 12
    اخر موضوع: 19-12-2006, 02:17 PM
  5. حوار بين أب في منامه مع ابنته
    بواسطة شـادن في الملتقى الحواري
    الردود: 1
    اخر موضوع: 21-04-2003, 02:45 PM

أعضاء قرؤوا هذا الموضوع: 0

There are no members to list at the moment.

الروابط المفضلة

الروابط المفضلة
لكِ | مطبخ لكِ