الوسيلة الثانية : حرية الكلمة والتعبير عن الرأي:
ومن صورها العصرية حرية الصحافة، وكالحصانة التي يعطيها المجلس النيابي لأشخاص ينتخبهم الشعب، ولهم الحق في النقد العلني والمحاسبة والانتقاد لكبح جماح السلطة.
وأصل ذلك في الفقه الإسلامي ضمان بذل النصيحة وبقاؤها حقاً عاماً للرعية لا يجوز مصادرته من قبل السلطة ما دام في دائرة الكلمة الحرة، كما صح في الحديث عن تميم الداري رضي الله عنه مرفوعاً: (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله، قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
ولهذا وجدنا في الأحاديث أعلى درجات الحض على العمل بهذا المبدأ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أفضل المسلمين عملاً من ينتقد السلطة إذا جارت كما روى النسائي عن طارق بن شهاب البجلي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز .. أي الجهاد أفضل؟ قال: (كلمة حق عند سلطان جائر)، وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).
وليس في هذا ما يقتضي إسراراً لكلمة النقد، بل هو إلى الحض على إعلانها أقرب، لأن ما جعلت أفضل الجهاد إلا من أجل أن في الإعلان التعرض لبطش الظالم وفي ذلك أعظم البذل للجهد وارتكاب المشقة في سبيل الله تعالى، فهي في الحقيقة وسيلة مؤثرة لكبح جماح السلطة وتقييدها.
وقال الإمام عبدالرحمن بن أبي بكر الحنبلي في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (والمقصود أنه كان من عادة السلف الإنكار على الأمراء والسلاطين والصدع بالحق وقلة المبالاة بسطوتهم إيثاراً لإقامة حق الله سبحانه على بقائهم واختيارهم لإعزاز الشرع على حفظ مُهَجهم واستسلاماً للشهادة إن حصلت لهم).
ومعلوم أن قيام العلماء بواجب الإنكار العلني على السلطة مع أمن وقوع مفسدة أكبر مستفيض استفاضة تغني عن التفتيش عن إسناد كل خبر على حدة، والنماذج من تاريخنا كثيرة جداً.
الوسيلة الثالثة : الاستفادة من أثر الرأي العام للرقابة على السلطة:
ومن الأمثلة في التاريخ ما رواه ابن الجوزي بإسناده أن المأمون قال: (لولا يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومن يزيد حتى يُتقى؟ قال ويحك، إني أخاف أن يرد علي، فيختلف الناس وتكون فتنة).
وفي الجملة فالأمثلة كثيرة، وعلماء الإسلام لم يغفلوا عن أي وسيلة تمكنهم من منع السلطة من التعسف في استعمال أدواتها للالتفاف على الشريعة الإسلامية التي تمثل ثوابت الأمة التي لا تقبل الالتفاف عليها بوجه من الوجوه، لأن كيان الأمة أصلاً مبني على إقامة الشريعة الإسلامية وبدونها تضيع هويتها وتسلب مكانتها وتتهاوى هيبتها.
الوسيلة الرابعة: وسيلة استعمال جماعات الضغط في المجتمع:
والمقصود بهذه الوسيلة أن تستغل جماعات الضغط (وهي التكتلات التي تخشى السلطة من ردة فعلها إذا تعدت السلطة صلاحياتها أو قصرت في واجبها، ويكون لهذه التكتلات التي توجد في كل مجتمع قدرة على التأثير في السلطة، وربما كانت هـذه التكتلات أحزاباً فكرية أو جبهة من العلماء الذين لهم ما يسمى هذه الأيام (سلطة روحية) على الشعب وقد تكون منافسة لسلطة الدولة، وربما كانت أقوى من سلطة الدولة في بعض الأحيان، أو طوائف مهنية أو مذهبية .. الخ) تستغل جماعات الضغط موقعها للرقابة وتقييد السلطة.
وأما المسلك الثاني: فالتاريخ الإسلامي حافل منذ العصور الأولى بشواهد القيام الجماعي لإنكار المنكر، والعجب كــل العجب ممن ينكر هذا مع استفاضته، ويَدَّعِى أن السلف لم يفعلوا شيئاً منه، ومن ذلك:
أن الإمام أحمد رحمه الله كان يفتي بأن يجتمع الناس لإنكار المنكر للتهويل والتشهير بالمنكر وأهله، فقــد روى الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن محمد بن أبي حرب قال : سألت أبا عبدالله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه، قال: يأمره, قلت: فإن لم يقبل؟ قال: تجمع عليه الجيران وتهول عليه.
وروي عن جعفر بن محمد النسائي قال : سمعت أبا عبدالله سئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون؟ قال: إذا ظهر له، هــم داخل، قلت: لكن يسمع الصوت يسمع في الطريق، قال: هذا ظهر عليه أن ينهاهم، ورأى أن ينكر الطبل يعني إذا سمع حسه، قيل: مررنا بقوم وقد أشرفوا من علية لهم، وهم يغنون فجئنا إلى صاحب الخبر فأخبرناه، فقال: (لم تكلموا في الموضع الذي سمعتم؟ فقيل: لا، قال: كان يعجبني أن تكلموا، لعل الناس كانوا يجتمعون وكانوا يشهرون).
وأما ما وقع من شيخ الإسلام ابن تيمية فكثير جداً، فمن ذلك:
ما ذكره خادم الشيخ إبراهيم الغياني قال: (فبلغ الشيخ أن جميع ما ذكر من البدع يتعمدها الناس عند العمود المخلق الذي داخل ( الباب الصغير ) الذي عند ( درب النافدانيين ) فشد عليه وقام واستخار الله في الخروج إلى كسره، فحدثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدين عبدالله بن تيمية قال: فخرجنا لكسره, فسمع الناس أن الشيخ يخرج لكسر العمود المخلق، فاجتمع معنا خلق كثير).
وشواهد التاريخ لا تحصى كثرة، والعاقل يعلم أن مثل هذه الوسائل السلمية للاحتجاج الجماعي إنما تتولد مــن النظام الاجتماعي نفسه، ومن كون الإنسان اجتماعياً بطبعه، يجتمع مع بني جنسه فيما يتفقون عليه فهو أمر لا يخلو منه عصر، ولا يحتاج إلى فكر، وإنما تدفع إليه الحاجة، والناس إذا توافقوا تعاونوا، فالعجب ممن يظن أن هذه الوسائل حادثة، ومن طرائف الأخبار أن شاباً ممن اعتاد على إلغاء عقله بتقليد حزبه، ذكر له أن جماعة من الدعاة أقاموا تجمهراً حشد له الناس في خيمة كبيرة بهدف إظهار النكير لإضعاف المنكر، وسئل هل يجيز هذا الأمر حزبه الذي يحرم التجمهر لأنه في زعمهم تشبه بالكفار ولم يفعله السلف، قال هذا يجوز لأنه تحت الخيمة فقيل له أرأيت لو أزلنا الخيمة وكان ذلك كله في العراء، قال لا يجوز حينئذ لأنه مظاهرة، وعش تر ما لم تر!!!
يتبع
الروابط المفضلة