بسم الله الرحمن الرحيم
أهدي إليكم .. تلك المجموعةالقصصية
نقلتها، لكم من مجلدات مجلة حياة
وهي احدى الزوايا القائمة في تلك المجلة المباركة ان شاء الله
الزاوية تحت مسمى: اعترافات فتاة / بقلم نوفالحزامي
- 1 -
سامحني يا أبي . .
كنت أشعر بحاستي . . أن هناك شيء ما سيحصل . .
كل ما يدور تلك الأيام كان يدلعلى ذلك . . أبي ترك المنزل . . وأمي تبكي طوال الوقت . .
وهمسات تدور هناوهناك بين خالاتي . . واتصالات جدية بالهاتف . .
ولم يطل الوقت قبل أن أصدم تماماً بما لم أتوقعه أبداً . . طلاق أمي وأبي . .!
كانت الخلافات بينهماكثيرة جداً . . وقد تعودت على ذلك منذ طفولتي . . لكن لم أتصور يوماً أن يتمالانفصال بينهما . .
لا أستطيع أن أصف شعوري لحظتها.. حين أخبرتني خالتيبذلك.. رغم أني كنت في المرحلة الثانوية.. إلا أني شعرت بأني عدت طفلة صغيرة.. لاتعرف كيف تتصرف ولا كيف تنحكم في مشاعرها..
أغرقتني نوبة طويلة من البكاء.. لم أعرف كيف أوقفها.. وبقيت أبكي طوال ليلتين متواصلتين..
لم أكن قادرة على تصور فكرة أن ينفصل أبي وأمي عن بعضهما.. أن يتركنا أبي.. ويعيش بعيداًعنا..
لم أكن قادرة على تخيل مكانه الخالي على سفرة الإفطار كل صباح قبل ذهابنا لمدارسنا.. ولا قادرة على تصور المجلس خالياً منه حين يجلس كل مساء يحتسيق***ه ويقلبَّ أوراق صحيفته..
كنت لا أعرف لمن أشعر بالرثاء..
لأمي المسكينة التي صبرت كثيراً.. وضحّت.. وتحمَّلت منه الكثير.. ثم تفاجأ الآن بأنه قدتركها وحيدة..
أم أشعر بالرثاء لأبي المسكين.. الذي لا أعرف أين سيذهب الآن.. من سيعتني به.. ومن سيصحبه..
لقد تحمَّل أيضاً هو الآخر منأجلنا..
لكن شيئاً ما كان يجعلهما غير قادرين على العيش معاً.. كانا مختلفين تماماً.. في كل شيء.. وكانت حياتهما معاً كمزيج من الزيت والماء.. مهما امتزجا.. فإنهما لا يختلطان معاً.. أبداً..
كنت أشعر أني ضائعة ومشتتة بينهما..
لكن الطلاق.. لم أكن أفكر به أبداً أبداً..
* *
وفيما بعد.. بعد أن انفصلا تماماً.. عشنا فترة طويلة ونحن نشعر بفجوة كبيرة فيحياتنا..
كنت أشعر بحزن كبير تجاه أمي.. وتعاطف تجاه أبي..
لكنيأيضاً.. كنت أكن لوماً وعتباً كبيراً على أبي.. فقد انقطع عنا تماماً.. ولم يحادثناأو يسأل عنا لمدة شهرين كاملين..
ولكن بعد فترة.. بدأنا نتأقلم شيئاً فشيئاً مع الوضع.. انشغلت أمي في دوامها.. وانشغلنا نحن بدراستنا وهواياتنا..
ورغمأن الجرح كان لا يزال في قلبي.. لكني بدأت أعتاد على لفجوة التي خلَّفها غياب أبيعن البيت..
وذات مرة اتصل علينا أبي.. وحادثني..
فلم أستطع أنأتحدث.. كنت مشتاقة له جداً.. وأحبه كثيراً.. لكن.. كنت أيضاً عاتبة عليه.. إذتركنا هكذا ونسينا ولم يسأل عنا منذ عدة أشهر.. شعرت بشيء يخنقني، فلم أستطع أنأنطق حرفاً واحداً.. وأخذت أبكي وأبكي حتى سقطت السماعة من يدي..
ولم أتذكرمن نبرات صوته الدافئ سوى (ربا.. كيف حالك؟.. لقد اشتقت لكم)
لم أكن أعرف من ألوم على من ألقي ذنب هذا الطلاق.. ولم أجد سوى ربي لألجأ إليه بالدعاء أن يكتب لناكل ما فيه خيرنا..
* *
وفي المدرسة كنت أعاني من الداخل.. لم أكنقادرة على التركيز ولا المشاركة في الفصل.. لكن أي معلمة لم تقدّر ظروفي.. لأني لم أجرؤ على مصارحتهن بما حصل.. ولم يسألنني بدورهن عن أية مشاكل قدأواجهها..
ولم أعد أحب أن أجلس مع زميلاتي كثيراً.. بل أصبحت أؤثر الوحدة أوالجلوس بصمت بينهن..
كنت أشعر أن في داخلي.. تفكيراً أسود.. يجعلني أحقد أوأغار من كل زميلاتي حين يتحدثن عن آبائهن، وعن نزهاتهن الأسرية. حين تقول إحداهن: (ذهبت مع أبي بالأمس إلى..) كنت أشعر بمس كهربائي يلسعني بقوة فيصدري..
وكنت أقول لنفسي كثيراً.. ما هذا يا ربي.. هل أصبحت شريرة لهذه الدرجة؟ أيعقل أن تحقدي عليهن فقط لأن لديهن آباء؟
وكنت أستغفر الله في سريدائماً.. لكن ذلك الشعور كان أقوى مني.. وكنت أشعر دون إرادتي أني أتمنى لو كنت مكان أي واحدة منهن.. أو.. أحياناً.. كنت.. كنت أتمنى لو يتطلّق آباؤهم وأمهاتهمكما حصل لي.. كنت أتمنى أن يذوقوا ما ذقته.. وأن يعيشوا مأساتي..
* *
بعد مدة.. اتصل أبي مرة أخرى.. وحاول محادثتي.. لكني رفضت.. كنت أتمنى فيسري أن أحادثه وأعرف أخباره.. كنت أحبه كثيراً.. لكن.. كنت عاتبة عليه جداً.. لأنه تركنا هكذا.. بكل سهولة ورحل..
وحاول أبي عدة مرات زيارتي أو محادثتي.. لكني وبلا إرادة مني.. كنت أرفض بشدة..
وازداد تعنتي أكثر وأكثر حين علمت أنه سيتزوج..
شعرت بأنها الطعنة الأخرى التي يوجهها أبي لنا.. شعرت بأنه يفعل أمراً خطأ.. أمراً معيباً له..
كيف يتركنا ويتجاهلنا.. والآن ويذهب لامرأةأخرى؟
كان تفكيري متجمداً تماماً وغير قابل للتغيير
بدأت أشعر أنأبي هو سبب ما نعيشه من تشتت.. فصببت جام غضبي عليه..
لكن ذات مرة وبعد زواجه أصر على رؤيتنا وأخذنا معه في زيارة لرؤية زوجته الجديدة.. وحين رفضت هددنا بأخذنا من والدتنا خاصة وأننا بنات..
وانصعت لأمره.. وكان لقاء جامداً..
تجاهلته فيه تماماً.. رغم أنه كان محملاً بالهدايا لنا.. وكان المسكين مشتاقاً جداً لنا..
كنت أشعر أني حانقة عليه بشدة..
شيء لايمكن وصفه.. أحبه.. ومشتاقة إليه.. لكن عاتبة وغاضبة إلى أبعد حدٍ عليه.. لدرجة أني لا أريد حتى رؤيته أو الجلوس بقربه..
كنت أشعر أنه لي.. أبي.. أبيلنا..
فلماذا يتركنا ويرحل.. نحو امرأة أخرى..
وحين رأيتها ومدت يدها للسلام عليّ.. أدرت وجهي عنها ومددت يدي ببرود.. وملامح وجهي تزدريهابشدة..
حاولت أن تتحدث معنا بطيبة، وأن تستدرجنا في الحديث.. لكني كنت أصوب نظراتي الحادة تجاه أخواتي الصغار حتى لا يتحدثن معها.. وكنت قد هددتهن قبل قدمونا حتى لا يتجاوبن معها ولا مع أبي..
شعر أبي بخيبة أمل.. وأعادنا بهدوء بالسيارة دون أن نتبادل حتى كلمة واحدة..
وحين وصلت إلى المنزل.. أسرعت نحوغرفتي..
وأخذت أبكي بحرقة.. كنت أعلم أني أحبه ولا أود أن أعامله هكذا.. ولكن لاأستطيع..
لم أعرف لماذا كنت أبكي بالضبط.. لكني شعرت بحرقة في صدري.. وددت لو أصرخ بشدة حينها..
تمنيت لو أفتح عيني فأجد نفسي قد استيقظت من حلمٍم رعب.. ويعود أبي إلينا.. هنا.. كما كان من قبل.. أبي الذي نحبه ويحبنا.. ولا يحبأحداً غيرنا..
لكن.. هيهات..
* *
وذات مرة.. سمعته.. كانشريطاً رائعاً.. عن بر الوالدين.. كنت عائدة من المدرسة.. وسمعته في سيارة خالي.. شعرت بأنه هزني من الأعماق وأيقظني.. وفجأة أحسست بأني حقيرة.. وصغيرة جداً.. وأتفهمن أي مخلوق على الأرض.. أيعقل ما قمت به؟
فقط لأن الله لم يكتب لوالديَّ أنيعيشا معاً.. أقرر مقاطعة أبي ونسيان كل أفضاله عليّ؟.. هل لمجرد كونه انسحب بهدوءمن حياتنا فإنني أشن عليه حرباً شعواء..؟ إنه لم يسيء إلينا بأي شكل.. لم يقصر فيحقوقنا.. ولا تربيتنا ولم يبخل علينا يوماً بأي شيء نحتاجه – حتى بعد أن تركنا.. بلإنه يحاول أن يرانا وأن يأخذنا لزيارته.. بينما أنا أرفض؟!! هل هذاعدل؟..
كم أنا غبية ومتعجرفة.. إنه السبب بعد الله في ظهوري لهذه الحياة.. وهو من سهر وقلق على راحتي حين مرضت وهو من حرص على تدريسي ورعايتي في الصغر.. وبعدكل هذه الأفضال.. أعاقبه لمجرد كونه اضطر لأسباب قاهرة أن ينفصل عنأمي؟!
بدأت أعيد حساباتي وأفكر من جديد..
وشعرت بحنين كبير لوالدي.. وخفت أن يقبض الله روحي قبل أن أرضيه عني.. نعم لابد أنه لا يزال متضايقاً لماواجهته به من جفاء..
وما أن وصلت إلى المنزل.. حتى أسرعت ورفعت سماعة الهاتف واتصلت عليه..
- أبي.. أبي.. أنا آسفة.. أرجوك سامحني..
- ربا.. ماذاهناك.. ما بال صوتك هكذا.. هل حصل شيء؟
- أبي.. أنا أحبك.. أقسم بالله أني أحبك.. لكن.. لا أعرف لماذا..
وانقطع صوتي لأني لم أعد أعرف ماذا أقولوشهقات البكاء تخنقني.. فصمت قليلاً ثم قال..
وأنا أيضاً أحبك يا ابنتي.. وأعرف تماماً لماذا كنت تتصرفين هكذا.. أعرف أن الأمر شديدٌ عليكن.. ولكن هذا قدر الله.. ماذا أفعل.. أنا أحبكن يا ابنتي وسأظل أحبكن.. ثقي بذلك..
- هل أنت راض عنيإذاً..
- نعم بارك الله فيك..
بعد ذلك.. تغيَّرت أشياء كثيرة فيداخلي.. ولم أعد أشعر بذلك الحزن وتأنيب الضمير الذي كان يخنقني.. أصبحت حياتي أكثرإشراقاً وراحة.. أصبحت أحرص على بَّر أبي وصلة رحمه وأحاول إرضاءه عني بكل الوسائل..
* *
قبل شهر أنجبت زوجة أبي طفلاً.. شعرت لوهلة بشيء منالغيرة لأنها أنجبت ولداً بينما نحن كلنا بنات.. لكن أبي قال لنا بالحرف الواحدوأمام زوجته..
- ثقي يا ربا.. أن أحمد لن يكون أغلى من أي واحدة منكن.. وواللهأني لن أفضله بأي شيء عليكن، فكلكم أبنائي ولا فرق بينكم..
فشعرت بارتياح جميل.. وكانت زوجة أبي طيبة جزاها الله خيراً حين سمحت لي بأن أضعه في حضني وأحملهبكل ثقة..
لأبدأ مرحلة جديدة من حياتي وصفحة بيضاء صافية.. لا مكان فيها للحقد والكره إن شاء الله
=============================================== تـــــــــــــــــــابـع
الروابط المفضلة