بسم الله الرحمن الرحيم ..
كلماتي اليوم أبعثها إلى ذلك الركب الصالح ..
من إخوة وأخوات ..
نظر الله طلعتهم .. ونور قلوبهم ..
فكانوا نبع حب يحملون هم الدعوة وهداية الخلق..
نعم.. فالدعاة هم نبع الحب .. منهم تخرج ينابيع الهداية ..
وبهم تحطم قيود الضلالة .. وتقطع أوصار الغواية..
فآثرت أن أبعث كلماتي .. مكللة ببحور من المشاعر الصادقة..والأحاسيس الدافئة ..
أرجو أن تكون لهم مؤنسا وزادا على طريق المحبة .. طريق الدعوة ..
إن من المؤسف أن نحس جفافا في قلوب بعض الدعاة ..وجفاء في معاملاتهم ..
ولعلهم يظنون أن هذا من أخذ الكتاب بقوة ..
لم يعيشوا حياة المحبة التي هي عين العطاء .. وعين الدعوة .. وأساسها ..
فبالحب تفتح القلوب ..
ابتسامة واحدة مع كلمات صادقة تأتي بالعجائب ..
فكم هم أولئك الأشاوس الذين أداخوا أعداء الله وأذاقوهم الويلات ..
دخلوا إلى هذا الدين باتسامة صادقة وهمسة حانية..من نفس محبة مشفقة ..
هذا إمام الدعاة .. وقائد الركب المبارك..النبي صلى الله عليه وسلم ..
بعثه الله وأرسله .. فلما بدأ طريق دعوته الشاق ..
وجد قلوبا جدبى من الإيمان ..
وعطشى لماء العرفان ..
وجد الناس يتخبطون في جاهلية جهلاء .. وضلالة عمياء ..
فمنح الحب .. وأصفى لهم الود ..
فاستطاع بذلك الحب أن يروي جدب قلوبهم ويفجر ينابيع الخير فيها ..
واستطاع أن ينير قحط عقولهم .. ويشعل أنوار المعرفة فيها..
ملك أسماعهم وأبصارهم بل وملك ألبابهم وقلوبهم ..
روى أرضا عطشى بحبه ..
فأزهرت وأينعت وترعرت .. وانتشرت كما تنتشر الخضرة في الأرض بعد أن ترويها السماء ..
تنشر الجمال .. فتميل إليها النفس وترتاح لمرآها الروح ..
وهكذا انتشرت دعوته ناشرة المحبة والصدق والوفاء ..
هكذا بحبه عليه الصلاة والسلام أضاء الكون بعد ظلمات الجاهلية ..
ونشر الدين بعد انتشار الشرك والكفر والوثنية ..
أعاد للبشرية كرامة الإنسان .. وأهميته ومكانته ورفعه من مستوى الحياة البهيمية السمجة ..
إلى الحياة الإنسانية الكريمة التي يقدر فيها الإنسان قدره ويعمل فيها عقله لا شهوته ..
ووازن بحبه بين عقل الإنسان وعاطفته ..
هكذا بحبه عليه الصلاة والسلام .. نشر روح الإخاء والحب بين أصحابه وأتباعه ..
فصار الواحد منهم يؤثر أخاه على نفسه .. فكانوا "رحماء بينهم" ..
هكذا بحبه عليه الصلاة والسلام أعاد للمرأة مكانتها واحترامها وإنسانيتها ..
ورفع لها قدرها..بعد أن كانت مستعبدة في الجاهلية يئدها الرجل في التراب حية خشية العار..
هكذا بحبه عليه الصلاة والسلام بذلك الحب بعد تأييد الله صنع المعجزات ..التي اعترف بها حتى الكفار من المتقدمين والمتأخرين فشهد له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء ..
فهذا عروة بن مسعود الثقفي لما جاء مندوبا للكفار في الحديبية ..
رأى من حب الصحابة لمحمد ما بهره وأذهله..فلقد رآهم يتنافسون على بصاقه إذا بصق ..
رآهم يسارعون إلى الماء الذي يتوضأ به أيهم ينال شرف الاغتسال به ..
نعم..لقد رأى شيئا لم يره في حياته من قبل ..
فرجع إلى أصحابه يقول : لهم والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ..
حبه ملأ الآفاق .. لم يقتصر على أصحابه .. لم يقتصر على زوجاته .. لم يقتصر على أبنائه وأهل بيته ..
بل لم يقتصر على أهل زمانه..تعدى الحدود ..وانطلق إلى الآفاق البعيدة البعيدة ..
فقال: وددت أنا رأينا إخواننا .. قالوا : يا رسول الله أولسنا إخوانك ؟؟!!..
قال: لا.. أنتم أصحابي إخواني الذين لم يأتوا بعد !! ..
نعم لقد وصل هذا الحب إلينا.. وشملنا ولم ينسنا بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام ..
فهل رأى أحد حبا كهذا .. يصل لمن لا يعرفهم ..
لقد ظفر الصحابة بأوفر نصيب من حبه..
حتى إن الإنسان ليغبط أولئك الصحب الكرام كيف كانوا يعيشون في رحاب قلبه عليه الصلاة والسلام ..
لا شك أنهم كانوا سعداء فوق السعادة ..
لطف معاملة ..وابتسامة ثغر..وإشراقة وجه..هي من أبرز صفاته عليه الصلاة والسلام ..
الابتسامة الحلوة .. والنظرة المحبة .. والسؤال عن الغائب .. وزيارة المريض ..
من أدوات دعوته عليه الصلاة والسلام ..
أيها الداعية الحبيب ..
إذا أتعبتك المشاكل وتشعبت بك الدروب وآلمتك الأحداث ..
فاذهب إلى رحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممثلا في سنته وسيرته ..
عش فيها لحظات ..
استمد منها رحيقا من رحيق نوره ..
وطاقة من من نسمات روحه ..
وقوة من آفاقه الواسعة ..
تزود منها لهذا الطريق الطويل الشاق ..
الذي هو طريق أهل الحق ..
فمواقفه تنطق بالمودة والحب ..
ذكر أهل السير أن رجلا من الصحابة اسمه عبدالله وكان يلقب حمارا ..
وكان كثيرا ما يضحك النبي صلى الله عليه وسلم..
كان شاربا للخمر ولطالما أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجلد على شربه للخمر ..
ولكن نفسه ما تلبث أن تضعف..فيعود لشربها. .
فلما تكرر منه ذلك يجلد على الخمر ثم يعود إليها..
أتي به يوما بين النبي صلى الله عليه وسلم ليجلده على الخمر ..فلما رآه أحد الصحابة ..
قال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به..
فلما سمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تعينوا الشيطان على أخيكم..
نعم.. لا تعينوا الشيطان على أخيكم..
هذا هو الحب الدعوي الصادق..
كن عونا له لا عونا عليه..
***
وهذا غلام يهودي مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه وكأنه يستشيره في الأمر.. فقال أبوه: أطع أبا القاسم ..
فأسلم الغلام..
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده متهللا فرحا مسرورا مستبشرا ..
يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار..
يهودي !!!..نعم يهودي –ولطالما آذى اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك
يتهلل وجهه فرحا لأنه أنقذه من النار..هذا هو حب الداعية العظيم..
وهذه هي أخلاقه المتشبعة بالمحبة والمودة والرحمة..
هذا أعرابي يأتي فينتحي ناحية من المسجد فيبول فيها..فينتهره الناس ويستهجنون فعله..ففزع الأعرابي ..استدعاه عليه الصلاة والسلام برفق ولين وبين له أن هذه المساجد لم تجعل لهذا..وقال أريقوا على بوله ذنوبا من ماء..
فيخرج الأعرابي وهو يقول : اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا..فقال عليه الصلاة والسلام لقد حجرت واسعا..
***
وهاهو عدي بن حاتم الطائي يروي قصة إسلامه فيقول:
جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بعقرب فأخذوا عمتي وناسا فلما أتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فصفوا له. قالت: يا رسول الله نأى الوافد وانقطع الولد وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمن علي من الله عليك. فقال: "ومن وافدك؟" قالت: عدي بن حاتم قال: "الذي فر من الله ورسوله؟" قالت: فمن علي. فلما رجع ورجل إلى جنبه ترى أنه علي قال: سليه ... قال فسألته فأمر لها. قال عدي: فأتتني فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها. وقالت: ائته راغبا أو راهبا فقد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه. قال: فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي فذكر قربهم منه فعرفت أنه ليس ملك كسرى ولا قيصر. فقال له: "يا عدي بن حاتم ما أفرك؟ أفرك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل من إله إلا الله؟! ما أفرك؟ أفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل شيء هو أكبر من الله عز وجل؟!" فأسلمت فرأيت وجهه استبشر..
نعم..لقد أثر في عدي تعامل النبي صلى الله عليه وسلم المحب المشفق..
نجد هذا الأثر بينا واضحا في قوله:
انطلق بي إلى بيته فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك. قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي فقال: "اجلس على هذه". قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها. قال: "بل أنت"..فجلست وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض..
ثم يفرح النبي صلى الله عليه وسلم ويستبشر بإسلام عدي بن حاتم..
هذا التعامل الراقي وهذا الحب العظيم الذي تنطق به أفعاله عليه الصلاة والسلام هو الذي أثر في عدي فدخل الإسلام..
******
وهذا شاب فتي يتفجر حيوية وشبابا..أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: يا رسول الله ائذن لي في الزنا..
فينتهره الصحابة رضوان الله تعالى عليهم..
ولكن الداعية المحب يناديه برفق ويفتح معه حوارا:أترضاه لأمك..فيقول الشاب لا والذي بعثك بالحق يا رسول الله..أترضاه لعمتك ...أترضاه لخالتك....وفي كل ذلك يقول الشاب:لا والذي بعثك بالحق..
فيقول: كذلك الناس لا يرضونه..
ثم يضع يده على صدره ويقول : اللهم طهر قلبه وحصن فرجه..
فلم يعد بعد ذلك الشاب يلتفت إلى شيء..
الدعوة الناجحة تحتاج لدخول إلى القلب ..دخول برفق..خطوة ثم خطوة ثم خطوة ولو طال الزمن المهم هو الهدف ..المهم أن يتقبلك الطرف المقابل فيتقبل ما جئت به من بعد ..
فإذا وصلت إلى القلب يرجى أن يستجيب العقل ويستقيم الطريق ..
هل نظن أن هذا البناء العظيم الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم بني في يوم وليلة..
كلا ..لقد استمر لسنوات من العطاء..سنوات في كل يوم يبني لبنة من لبنات الحب..
حتى اكتمل البناء..وتم الأمر..وانتشر الدين..وأقبلت أفواج المهتدين ..فدخلوا في الدين..
فهيا.. هيا..لندعو بحب..فالبحب تختصر المسافات إلى القلوب ..
وتحقق الغايات الصعبة البعيدة المنال..
وليس أعظم من الإسلام غاية..ولا أشرف منه بداية ونهاية..
فيأيها الدعاة...
لا تحقروا أحدا فالله يصطفي من يشاء ويجتبي من يشاء..
سوف يتأكد لكم أن هناك من يترقب أيديكم لتأخذوا بيده..
وهناك من يتمنى أن يتعرف على الدعوة ويترقب من يناديه أن هلم إلينا..
يترقب من يبعث الأمل في نفسه..ويبعث الحياة إلى روحه..
لتسعد وتهنأ وتطمئن بقربها من ربها ..
ليس من الوفاء للدين أن يسعد به الصالحون وحدهم..
(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)
المنبع واحد..والغاية واحدة..والحقيقة واحدة..
فهيا لنصنع الرجال ونبني الأجيال..
لعل بعض القلوب كانت منطوية منزوية منسية..
ولكنها ما إن تجد همسة من نداء..
ولمسة من يد حانية..ونظرة من عين محبة..
ولمحة من كلمة ندية..
ما إن تجد ذلك حتى تتفتح كما تتفتح الأزهار..
وتقبل كإقبال النهار..
وتتدفق عواطفها كما تتدفق الأنهار..
وتشع بنور الهدى وتنشر الدعوة إلى الأمصار..
*****
هذه كلماتي ..
نبض قلب وخلجات نفس..
تكاد تنطق لفرط ما تحمله من عظيم الحب لك أيها الداعية..
فالحق بالركب وأعطه الحب..
روى البخاري في حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب
عندما أعطاه الراية:
(...فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم..)
الروابط المفضلة