الرزق الحلال
درس في القناعة والطموح .
كثيرا ما تصادفنا عبارات ومفاهيم ومقولات
نعتقد أنّنا نفهمها جيّدا ،
إلّا أنّنا بالتمعّن نكتشف أنّ فهمنا قاصر عن إدراكها
ومما يصعّب الأمرعلينا : الخلط والجهل بالنصوص الدينية ،
والتّأويلات المنطلقة من عدم إلمام بالموضوع .
الحمد لله ، نسمعها من الغني والفقير ،
وفي كلّ مرّة نسمعها ؛ندركها مختلفة
لأنّها تختلف باختلاف درجة الإيمان ودرجة الرضى .
وباختلاف في إدراك مفهومي القناعة والطموح
لن أتحدّث عن القطط السمان التي تنتفي عندها القيم ,
والتي كلّما تضخمت ثرواتها طمعت في المزيد .
وسلكت شتّى الطرق ل توسيع ثرواتها على حساب القيم والأخلاق
متذرّعين بالمقولة الفاسدة : الغاية تبرّر الوسيلة .
بل سأحصر حديثي على الناس البسطاء ،
على الإنسان الذي ينحث الصخر ليجلب لقمة عيش
تقيه لسعات الجوع ليستمرّ في العيش وليشتغل
وتدور الدائرة إلى أن يفتح له الله أبواب الرزق ..
مناسبة هذا الكلام تصريحات سمعتها من طفل في الثانية عشرة من عمره
يعول أسرته ويعالج والده المصاب بمرض مزمن
ويتابع دراسته ويخاف على إخوته
ممّا يخبئه لهم المستقبل
يقول :
تعقيب:
لا أدري ما كان سيحصل لهم لو لم أكن موجودا؟
سؤال صعب ، وكبير،
وغير معقول كما يبدو لنا لأنّ منطقنا غير منطقه .
صغير جدّا على تحمّل المسؤولية
لكنّه كبير بقوّة شخصيته وإصراره على النجاح .
رجل، وعليه تنطبق حرفيا مقولة :
الطفل أب الرّجل
أسوق القصّة وبعدها أستخلص منها ما استطعت من دروس
وأترك لكم مجال التفسير والتّأويل
وإن كانت صورته ـوهو طفل نحيل جميل يقدّم تصريحات ـ صادمة .
كان موضوع البرنامج عن عمال النظافة
ومن يعيشون في محيط المطارح ويقتاتون منها .
انطلق من تقديم يقارن بين عامل النظافة في بلدان تعتبره موظّفا
أو تقني نظافة ؛له اعتبار وله راتب يقيه شرّ الجوع والعراء
وبين نفس العامل عندنا : الزّبال ،
مع ما يصاحبها من تبخيس واحتقار واستبعاد وكأنّه أجرب .
يضطر الفرد في بلد فقير إلى القيام بأيّ عمل
لحماية نفسه وأهله من الجوع والعراء ،
وإن كانت هناك أمور أخرى يؤجّلها
أو يلغيها من قاموس حاجاته
كالاهتمام بالصحّة وغيرها ممّا يعتبره الآخرون ضروريات
وينظر إليها هو على أنّها كماليات .
لن أتحدّث عن الأم المطلّقة أو الأرملة
التي تشتغل في تنظيف الشوارع ،
ـ وفي عينيها تتزاحم بسمة رضى ودمعة ألم ـ
وتعبّر عن اعتزازها
بعملها لأنّها تطعم ابنها حلالا
في غياب الأب الذي تخلّى عنهم .
سأتكلّم عن طفل ـ في عمر الزهور كما يقولون ـ،
تابعته الكاميرا* بين بيت غير مكتمل البناء
لأنّ الوالد الذي كان يقوم بنفس العمل
أصيب بأمراض مزمنة أقعدته عن العمل ،
فبقي البيت عبارة عن حوش بالكاد
يحميهم من البقاء في الشارع
*وبين مطرح قمامة أكبر مدينة في البلد ،،
يقضي بعضا من يومه في التقاط أشياء : بلاستيك أو حديد
أو أي شيء قابل للبيع ،
يلتقطها ليأتي شخص آخر النهار ويشتريها بثمن بخس .
يقضي جزءا من نهاره* بين أقرانه
ممّن حرموا الحقّ في الذهاب إلى المدرسة ،
و* أبقار تسمن على فضلات المنازل ،
*و سحابة نوارس فقدت عزّتها
ولم تعد تقوى على الصيد ففضّلت الصيد السهل .
*ومهن طفيلية بزغت بفعل الحاجة :
سيارة وجبات سريعة تبيع أرخص أنواع
الأكل كالخبز والحمص والعدس والشاي ،
صاحبها كان يوما يطمح أن يكون أستاذا أو محاميا...
كسرت أزمة الشغل طموحه ،
فجاء يتقاسم البؤس وهؤلاء ويقدم لهم خدمة
بسبب بعد المطرح عن المدينة
يحضر السندوتشات
وكلمة الحمد لله لا تفارق فاه
وحلما بإيجاد عمل يناسب شهادته
يتكرر بين جملة وأخرى . .
أناس من مختلف الأعمار
بينهم قاسم مشترك هو القناعة وعدم اليأس من المستقبل؛
ومضمون كلامهم يقول : نحن لا نسرق ولا نغشّ
نأخذ بالأسباب والرزق على الله ؛
منهم من يحتجّ ويتأسّف على حاله
لكن تأسّف المغلوب على أمره
المؤمن بأنّ هذا ما كتب الله له .والحالم بفجر جديد.
إلى أن أتى دور هذا الطفل فقال :
أحمد الله أنّي وجدت مكانا أ جلب منه قوت عائلتي
* ما يهمّني هو ألّا يموت إخوتي جوعا
*وما يهمّني أوّلا هو توفير العلاج لوالدي
*وإتمام دراستي ،
**أنا أعتزّ بما أقوم به ، ولا أخجل منه لأنّه رزق حلال ،
**وأنا أتعب وأخرج من البيت بعد الفجر وأعود مساء بما كتب الله
***والفرق بيني وبين رفاقي أنّي أدرس وهم لا يدرسون
* أدرس لأنّي لا أريد لأخي الصغير أن يذهب إلى المطرح ،
لا أريد له هذه الحياة .
يقولها بصوت منخفض
وكأنّه لا يريد أن يعرف أخوه الصغير في أيّ بؤس يعيشون .
ما أكثروأكبر العبر التي يحملها كلام هذا الطفل ،
والتي قد لا يقوى عليها بعض الآباء
الذين يهربون من المسؤولية
ويستسلمون لليأس
.مدرك تمام الإدراك لمفاهيم تسيّر حياتنا
ويوصينا بها دينناوكثيرون منّا عنها غافلون .
وحين تكلّم الأب صدمني لأنّه إنسان مثقف رغم بساطةتعليمه،
كغيره ممن يسكن هذا الفضاء ،إنسان اطفأت آماله
في إنهاء تعليمه والعثور على عمل قارّ فجاور المطرح
بكلّ ما يجلبه من بؤس وأمراض وانسداد آفاق .
لكن في عينيه وهويمسح على رأس ولده بريق :
أريد أن يكون ولدي إنسانا مرموقا .
بكيت حين شاهدت الحلقة ،
لكنّي سعدت وأعجبت بهذا الطفل الذي يتكلّم كالرجل
المسؤول عن أسرة . فما الذي استخلصته وينبغي استخلاصه ؟
*طبعا الإيمان القوي بأنّ الأرزاق بيد الله
لكن ما أثار انتباهي عند هذا الصغير هو :
*الشجاعة وعدم الاعتراض على وضعه ،:
أي أنّه بدل السلبية والتمرّد وربّما الانحراف
الذي قد ينساق إليه طفل في نفس ظروفه نرى إنسانا نظيفا
يعود من العمل فيتوضّأ ويصلي ويقّل يد الوالد المريض
ويسأله عن موعد عمليته
ويشفق على إخوانه
لأنّ العمل جعله كبيرا .
غيره من الأطفال المدلّلين ما كان ليقبل العمل ،
وإن ذهب إلى العمل تخلّى عن الدراسة .
*الإصرار والطموح : في هكذا وضع نجد طفلا
يطمح إلى إتمام دراسته
والعمل لينتشل أسرته من براثين الفقر .
ما أجمل نظرة الأمل في عينيه ،
*القناعة : نموذج القناعة هنا قويّ جدّا
لأنّ هذا الطفل مقتنع أنّ الله كتب له أن يعيش هكذا ،
وأنّه غير خجول من عمله لأنّه رزق حلال ،
كم من الكبار ييأسون ولا يقوَوْن على بعض الأعمال
التي يعتبرونها شاقة أو غير نظيفة ،
متناسين أنّ النظافة في القلوب التي تميّز بين الموجود
والمستحيل والممكن
والتي تحمل آمالا واسعة :
تصريحه بأنّه يريد أن يكون شيئا كبيرا في المجتمع ،
وأن يحمي أسرته ويعالج والده المقبل على إجراء عملية
تقلب كلّ المفاهيم حول الطفولة
والنضج والمسؤولية والأخلاق .فما رأيكم ؟
هذه النماذج كنت أقدّمها لأبنائي ـ تلاميذي ـ ولأولادي
ليعرفوا أنّ الطموح
لا ينبغي أن تقف أمامه عوائق ظرفية .
وأنّ القناعة لا تتنافى والطموح ولا تعني السلبية.
نحن فعلا في حاجة إلى تجديد قواميسنا ومفاهيمنا
لأنّ الحقائق التي نطق بها هذا الطفل
أقوى من كلّ الحقائق المنمّقة التي يقتنع بها
ويروّج لها الكثيرون .
فتحيّة لهذا الطفل /الرجل الذي نبّهني
وهزّ عندي كثيرا من المسلّمات
التي كنت أؤمن بها حول التعليم والتعاون والطفولة .
وملاحظة أخيرة لكنّها الأولى في قائمة الأولويات ،
وهي الأمل في أن تحرّك صور البؤس هذه حمية المجتمع
لينتبه إلى جزء من رأسماله البشري ولا يسمح بهدره .
لأنّ أكبر رأسمال لكلّ مجتمع يريد النماء والتطوّر
هو العنصر البشري الذي يتطلّب تأهيلا مناسبا
وتوجيها مناسبا ومناصب شغل تضمن لأبنائنا العيش الكريم .
الروابط المفضلة