
احتفظت بنظارته.. وبنسخة المفاتيح التي كانت في جيبه..
وضعتهم في حقيبتي.. أقفلتُ عليها خزانة ملابسي..
وتوجّهت إلى حيث كان يضع المصحف الذي يقرأ فيه..
فتحته.. لأجد أن آخر صفحة قرأتها عيناه من القرآن الكريم هي آخر صفحة من سورة الزمر.. تلك التي تحمل بين طياتها آياتٍ كريمة تحكي نهاية الدنيا.. ونهاية يوم الحساب..
تأملوا معي هذه الآيات ما أروعها! :
(( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) ))
.
.
.
هذا ما حمله معه والدي رحمه الله ..
حمل معه صلاحه وتقواه وطاعته وعمله الطيب بإذن الله.. وسمعته العطرة.. ودعاء أولادٍ رباهم على الصلاح.. وتلاوة لم تنقطع للقرآن الكريم.. كان يحيي بها الليالي الطوال حتى الفجر.. زاوية تلك الغرفة التي كان يحب أن يجلس فيها عندما يتلو ستشهد له بذلك بإذن الله.. وأيضاً قلمه الرصاص الذي كان يدوّن به على ورقة جانبية الآيات التي كانت تجذبه

هذا ما حمله معه.. بالإضافة إلى.. قطعة قماش بيضاء......
بعد أن غسلوه وكفنوه.. وقبل أن يحملوه بعيداً.. اقتربت منه أتفحصه وأتساءل..
هل من بداخل هذا الكفن هو أبي حقاً!!
ولكن .. أبي.. مازال لدي الكثير لأقوله لك.. أين تذهب؟؟!! .. مازلت بحاجةٍ لك ولكلماتك ونصائحك..
هل تسمعني يا أبي؟؟
.
.
.
هذه هي المرة الأولى التي أخاطب فيها أبي فلا يجيبني..
إذاً..
مات أبي..
مات....
مازلت لا أصدق..
أن أبي.. أبي الحبيب الذي يقال أني نسخة مصغرة عنه في الشكل والفعل..
أبي الحبيب الذي أوتي من الحكمة والخبرة في هذه الحياة الكثير الكثير ..
أبي الحبيب الذي كان قنديل هذا البيت....
لن نلقاه إلى يوم القيامة...
.
.
.
الله المستعان على هذه الدنيا.. الله المستعان..
ما نحن فيها إلا عابري سبيل.. ها نحن كل يوم نودع ميتاً .. وكفى بالموت واعظاً ..
الآن استشعرت تماماً تماماً قول فاطمة رضي الله عنها عند وفاة أبيها رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه :
(( أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على وجه النبي صلى الله عليه وسلم ؟!! ))
لأني قلت عبارة مشابهة لأخي.. ذاك اليوم.... مع فرق التشبيه طبعاً .. لكنه شعور لا يعلمه إلا من ذاقه .. ومن ذاقه يستحيل أن ينساه ..

.
.
.
حريّ بنا بعد أن نرى أو نسمع عن الموت وسكراته أن نشدّ الرحال إلى طريق الطاعة.. والعفو.. والالتزام.. والإخلاص.. والخير..
ونهجر طريق الذنوب..
بل نحرق موانئه..
فلسنا نقوى على حر جهنم يا أخوتي وأخواتي .. نعوذ بالله منها


لن نأخذ من متاع هذه الدنيا وزينتها شيئاً سوى قطعة قماش ٍ بيضاء نُلف بها..
لا شيء غيرها!
* إلى من شغلته الدنيا بما فيها من زخرف..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم..:
(( والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا ، كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتلهيكم كما ألهتهم ))
صحيح البخاري
* إلى من جعل جُل اهتمامه " التكاثر " ..
يقول عز وجل في سورة التكاثر ..:
(( ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترونّ الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتُسئلثن يومئذٍ عن النعيم ))
ويقول جل في علاه في سورة عبس :
(( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ))
* إلى من شغله ماله.. وأمواله..
عن رسول الله صل الله عليه وسلم أنه قال :
(( يقول ابن آدم: مالي ومالي - يعني : يفتخر به - وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ))
رواه مسلم
* إلى من شغلته البورصة وخسارة تجارته.. أو خسارة أصدقاء عمره لسببٍ ما.. أو خسارته في إحدى صفقات الدنيا..
(( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ (9) )) / الأعراف
(( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) )) / الزمر
قصيرةٌ هي الدنيا واللهِ وإن ظننا أنها سنين طوال..
استعرضت شريط حياة أبي رحمه الله في مخيلتي.. فوجدتُ أنه شريطٌ مشرّف ولله الحمد.. طوبى له به

ووجدتُ أيضاً .. أن شريط حياة المرء مهما طال وطال.. فلن يتجاوز تخيّله بضع دقائق..!
فنسأل الله أن يرحمنا بواسع رحمته ويجعلنا وإياكم ووالدي الحبيب ، الذي تعلمت منه الكثير في حياته وبعد مماته ، ممن يُقال لهم..:
(( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ))
وإنها واللهِ لغاية مقصودنا..
أما هذه الدنيا فمتاع زائل بكل ما فيه والله..
(( كل من عليها فان * ويبقى وجه ربكَ ذو الجلال والإكرام )) / الرحمن
لطالما تفكرت في هذه الآية وتأملتها طويلاً.. لكنها الآن أصبحت ذات صدىً لا يُنسى عندي.. وستصبح كذلك عندنا جميعاً..
.
.
.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
تعليق