الأنوار أضاءت ذلك البيت، وأصبح الليل نهاراً، امتلأ البيت بالمهنئين، الكل مشغول بالعرس، إلا هو، جلس وحيداً، لم يتجرأ أن يتحدث مع أحد. سلم عليه أحدهم، رد عليه السلام، لم يستطع أن يمكث طويلاً في العرس، ركب السيارة إلى حيث لا يعلم.
كان المفروض أن تكون هذه الليلة ليلته هو. أوقف سيارته في منطقة رملية بعيدة، نزل منها، وقف ساهماً. فجأة سطعت أنوار سيارةٍ في عينيه، وضع يده على وجهه متقياً ذلك الضوء الساطع. انطلقت من السيارة ضحكات وعلا صوت الأغاني والتعليقات منها، صاح أحدهم:
- سيف ماذا تفعل هنا؟!
- هل تهرب منّا؟!
- هاها.. لا مفر.. نحن وراءك حيث تذهب..
لم يهتم بهم.. تجاهلهم.
- يا جماعة.. حرام عليكم الظاهر أنه يعيش قصة حبٍ جديدة.. هيا…
غنّى الجميع في صوتٍ واحد..
بديت تحب.. بديت تغار
بدا قلبك يعيش بنار
بديت تسهّر عيونك
احمرّ وجه سيف وصرخ فيهم..
- يكفي.. يكفي..
توقّف الجميع عن الغناء، تقدّم أحدهم..
- سيف لماذا الغضب؟! هل غضبت منا؟! لم نفعل شيئاً يستحق كل هذا الغضب.
- اسمحوا لي يبدوا أنني فقدت أعصابي..
أخرج محدّثه سيجارة من جيبه، أشعلها ووضعها في فم سيف وهو يقول:
- ونحن قد سامحناك، هيا اركب سيارتك، أحضرنا معنا ما يلزم ستقضي ليلة لم تعشها في حياتك.
أخذ سيف نفساً عميقاً ثم نفث دخان النار المشتعلة في صدره. ركب سيارته وانطلق خلفهم.
** ** ** ** **
عاد إلى بيته في منتصف الليل، نظر إلى البيت المجاور لبيتهم، الهدوء يعم المكان لكن الأنوار المضيئة كأنها ما تزال تتحدّث عن ذلك العرس.
دخل غرفته، وحين أشعل النور وجد والدته العجوز نائمةً فيها. لم يشأ أن يوقظها كي يرتاح من أسئلتها. أغلق الباب وجلس في الصالة، استلقى على كنبة، رنّ هاتفه، يعلم من هي المتصلة، أما ملّت من الحديث؟! لقد ملّ منها منذ فترة، كان عليه أن يستبدل رقمه برقمٍ جديد.
- سيف ولدي متى جئت؟!
لقد استيقظت والدته ولم يشعر بوجودها..
- مساء الخير.
- يا ولدي، قل صباح الخير.
اقتربت منه والدته..
- أما زلت حزيناً يا ولدي؟! الزواج قسمة ونصيب..
وقف، احمرت عيناه، وتغير صوته..
- لا ليس قسمة ونصيب، هو السبب، هو الذي رفض أن يزوجني ابنته، مع أني ابن عمها وأولى بها من الغريب.
- يا ولدي استهدي بالله.
كان صوته الغاضب أعلى من صوتها الواهن..
- حرام عليه، حرامٌ أن يفرق بيننا.
تنهدت أمه العجوز وهي تقول:
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
- أنا متأكد أن دانة تحبني مثلما أحبها.
- ولدي لو كانت تريدك لما وافقت على من تقدم لها.
رد عليها بصوت حزين مستسلم..
- وهل تعتقدين أنها وافقت؟! لابد أن عمي أجبرها على الزواج به.
- اذكر الله يا بني.. لن يفيدك هذا الحديث في شيء، لقد انتهى أمرها، ومن يعلم، قد يرزقك الله بمن هي أجمل منها.
الجمال ومن قال لك يا أمي أني أبحث عن الجمال.. هكذا ردد في نفسه دون أن يفصح لوالدته.
- هيا قم وتوضأ فأذان الفجر اقترب موعده.
- لا أريد أن أرى أحداً، سأصلي هنا في البيت.
رفع أذان الفجر، ورفعت معه أم سيف يدها إلى السماء تدعو لابنها بالهداية.
رن هاتفه مرة ثانية، إنها هي، مصرة على التحدث معه!!
تركه يرن ويرن حتى توقف.
لماذا ظنت والدته أنه يبحث عن الجمال؟! إنه لا يذكر دانة، لكنه متأكد أنها جميلة. سيف لم يشاهدها منذ عشر سنوات. كم لعب معها عندما كانوا صغاراً! ومنذ وعى لهذه الدنيا والجميع يقول: دانة لسيف وسيف لدانة.
ترى ما الذي غير عمه؟! كان يحبه ويعتبره واحداً من أبنائه خاصة بعد وفاة والده، لماذا فضل صالح عليه؟!.
صالح غريمه اللدود منذ كانا على مقاعد الدراسة، طالما تنافس معه على المركز الأول. استطاع صالح أن يحتفظ بالمركز الأول، أما سيف حين تنازل عن تفوّقه تنازل عن أشياء كثيرة.
كان يُحب صالح كثيراً حتى ذلك اليوم الذي تعاركا فيه بالأيدي والسبب سيجارة، وضعها سيف في فمه، كره صالح منذ ذلك اليوم، وأصبح يستفزه بأي طريقة. كان يستمتع بالتدخين في الأماكن التي يتواجد فيها معه، أصدقاؤه الجدد أفضل حالاً من ذلك اللئيم.
لكن لو كان لئيماً لما فضله عمي عليّ… هكذا حدّث سيف نفسه… لا.. عمي يكرهني لأني رفضت أن أظل حبيساً كالنساء في البيت إلى جانب والدتي العجوز، يريدني ألاّ أفارقه إلا للمسجد أو الجامعة.
الجامعة.. ما فائدة الشهادة وميراثي من أبي يملأ البنوك!! تذكر السيجارة الأولى.. والكأس الأول، والمكالمة الأولى، والحب الأول.. لا هو لم يحب سوى دانة، وماذا عن باقي الفتيات؟! إنهن مجرّد لعبة يشغل بهن لياليه.
والحب.. أي حب؟! الحب لا يعرفنه، هو يتسلى وهن كذلك، كم عرف من الفتيات!! وكم خرج مع هذه وتلك، وبعد كل هذا ألم يقتنع عمه برجولته؟!.
أحس بنار تملأ صدره، لابد أن يفعل شيئاً وأن يوقف تلك المهزلة.
رن هاتفه لكن هذه المرة كان أحد رفاقه، بعد حديث قصير دار بينهما، نزل بسرعة، ظنت والدته أنه سيذهب إلى المسجد، ركب سيارته وانطلق بها مسرعاً.
** ** ** ** **
مرّ النهار بطيئاً، وأم سيف تنتظر. حلّ الليل وما زالت تنتظر. حين تعدّت الساعة العاشرة ليلاً وضعت عباءتها على رأسها وحملت في يدها ورقة.
دقّت باب العم، فتح لها أحد الصبية الباب. حين شاهدها ترك الباب مفتوحاً ودخل بسرعة. أمّا هي فظلّت واقفة، لم تجرؤ أن تدخل حتّى يؤذن لها، يكفي مجيئها في هذا الوقت المتأخر. جاءت أم دانة، رحّبت بها وطلبت منها الدخول، لكنّها قالت:
- لا أريد أن أمكث طويلاً، كل ما في الأمر أن ابني سيف تأخر ولا أعلم عنه شيئاً. حاولت الاتصال به مراراً… لا فائدة. ربّما أطلب رقماً غير صحيح. هل بإمكانكم الاتصال به.
هنا أخرجت الورقة، مدّت يدها…
- هذا هو الرقم.
أشفقت عليها أم دانة، وقالت:
- لا داعي للقلق يا أم سيف.
- كيف لا أقلق وقد خرج ابني منذ الفجر ولا أعلم مكانه.
- أم سيف… ابنك مع عمّه.
علا السرّور مُحيّا العجوز قائلة:
- الحمد لله… الحمد لله… لقد انتظرت هذا اليوم منذ زمنٍ بعيد.
- إنّهما… إنّهما… إنّهما في مركز الشرطة.
- في مركز الشرطة!! لماذا؟!
- لا أعلم ماذا أقول لكِ يا أم سيف. ابنك حاول الاعتداء اليوم على عمّه. كان ثملاً، ولولا عناية الله لكان زوجي…
لم تنتظر أم سيف أن تعرف باقي القصة، غطّت وجهها وخرجت ثقيلة الخطى.
** ** ** ** **
قاد الشرطي سيف إلى غرفة الزيارة. أخيراً تذكّره أحد. مَن مِن أصدقائه جاء لزيارته؟! ربّما جاؤوا جميعاً… من يعلم؟! توقّع الجميع إلاّ هي. أحنى رأسه خجلاً أمامها حين رآها. لقد كانت والدته.
عبرتها سبقت كلماتها…
- لماذا يا ولدي؟! لماذا دمّرت حياتك بيدك؟! لماذا تضيع وتريد أن تضيّع غيرك معك؟!
- أمي…
قاطعته…
- وهل لديك شيء تقوله بعد فعلتك؟!
أكملت والحسرة تملأها…
- خسارة… خسارة وألف خسارة يا سيف.
تلك الكلمة اخترقت جسده، حرّكت شيئاً في داخله… ومع ذلك لم يستطع أن يرد عليها أو يرفع صوته مثلما اعتاد…
- ضيّعت عمرك وشبابك وضيّعتني معاك…
وبكت… بكت بحرقة بعد كلماتها الأخيرة تلك. ووقف ساكناً أمام دموعها، تملّكته رعشة في أوصاله.
انتهت الزيارة وتلك الرعشة لم تفارقه. تلك الإنسانة لم يعترف يوماً بوجودها ولم يضع لها أيّ اعتبار. اكتشف الآن أنّها الوحيدة من يستحق حبّه. استرجع في ليالي السجن كل ما فعلته من أجله. عاش لحظات صراع مع نفسه. السجن لا مفر منه. كاد الندم أن يعرف طريقه إلى قلبه لكن قبل محاكمته بأيّام تنازل عمّه عن القضية.
شيء غير متوقع. ها هي الحرية تفتح ذراعها من جديد، وبدل أن يحمد الله بيّت الشر لعمه ليردّ الصاع صاعين!!.
** ** ** ** **
نظر إلى والدته التي حاصرتها الأجهزة والأدوات الطبية من كل جانب. قبّل يدها التي غُرست فيها إبرة محلولٍ طبي. لقد غرس قلبها الضعيف ما هو أدهى وأمر، ولم يشعر بها إلاّ وهي على مشارف الموت. لولاها لما تنازل عمّه عن القضية، ولولاها لما عاد إلى صوابه ورشده…
- منذ أيّام وهي على تلك الحال.
- أنا السّبب…
- لا تقُل هذا الكلام يا ولدي… قدّر الله وما شاء فعل.
- لا يا عمّي طيشي هو من أوصلها إلى هذه الحالة.
- ليس بمقدورك فعل شيء لها سوى الدعاء.
- كم دعت لي!! كم نصحتني!!
- سيف إذا احتجت أيّ شيء لا يردّك شيء عن طلبه…
- فيك الخير يا عمي.
خرج عمّه الذي أساء له كثيراً. تمنّى ساعتها أن تستيقظ والدته لتراه كما تمنّته. لترى إنساناً جديداً.
أغمضت أم سيف عينها بعد أن أحسّت أنّها ضيّعت عمرها في تربية ابن عاق. ماتت قبل أن ترى ثمار ما غرسته طوال عمرها.
ـــــــــــ
بكى الحارث العكلي في جنازة أمّه فقيل له: تبكي؟! قال: ولِمَ لا أبكي وقد أُغلق عنّي باب من أبواب الجنّة.
انظر حواليك، إن كان أحد أبواب الجنّة ما يزال مفتوحاً اغتنمها من فرصة ولا تفرّط فيها كي لا يغلق في وجهك ذلك الباب يوم لا ينفع فيه ندمٌ أو حسرة.
بقلم: شمس الضحى
<p <p align="center"> <object id="RAOCX" classid="clsid:CFCDAA03-8BE4-11cf-B84B-0020AFBBCCFA" width="288" height="80">
<br />
<br>
<br />
<param name="_ExtentX" value="7620">
<br />
<br>
<br />
<param name="_ExtentY" value="2117">
<br />
<br>
<br />
<param name="AUTOSTART" value="-1">
<br />
<br>
<br />
<param name="SHUFFLE" value="0">
<br />
<br>
<br />
<param name="PREFETCH" value="0">
<br />
<br>
<br />
<param name="NOLABELS" value="-1">
<br />
<br>
<br />
<param name="SRC" value="http://www.islamway.com/arabic/images/several/anasheed/moamara.ram">
<br />
<br>
<br />
<param name="CONTROLS" value="ALL">
<br />
<br>
<br />
<param name="LOOP" value="0">
<br />
<br>
<br />
<param name="NUMLOOP" value="0">
<br />
<br>
<br />
<param name="CENTER" value="0">
<br />
<br>
<br />
<param name="MAINTAINASPECT" value="0">
<br />
<br>
<br />
<param name="BACKGROUNDCOLOR" value="#000000"><br>
<br />
<br>
<br />
<br>
<br />
<br>
<br />
<br>
<br />
<br>
<br />
<br>
<br />
<br>
<br />
<br>
<br />
<br>
<br />
<br>
<br />
<br>
<br />
<embed src="http://www.islamway.com/arabic/images/several/anasheed/moamara.ram" controls="Default" autostart="true" console="Clip1"><br>
<br />
<br>
<br />
</object></p><center>
<br />
ملاحظة: الحقوق محفوظة لجميع الأخوة والأخوات بشرط أن تنسب القصة حين نقلها إلى كاتبتها.
الروابط المفضلة