التوازن في : [الكون]، (27)
إن عنصر الجمال يبدو مقصودا في تصميم هذا الكون وتنسيقه وتوازنه.. ومن كمال هذا الجمال ، أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها !!!
قال تعالى: [صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)] النمل.
**********************************
يقضي معظم الناس حياتهم غير مبالين بالتوازن الدقيق والانضباط البارع في هذا الكون.. ويجهلون عظمة المعنى لهذه التوازنات والتوافُقات في حياتهم. بينما أن أي خلل مهما يكن صغيرًا في أي من هذه التنظيمات سيتسبب بمشاكل قاسية فيما يتعلق بوجود وبقاء الجنس البشري. إن كل شيء في هذا العالم الذي نعيش فيه يسير وفق نظام محدد..وتوازن يحفظها في تناسق وتوافق.
إن الألفة قد أفقدتنا الوهلة والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى مثل هذه البدائع للمرة الأولى.
ولا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بهذا كله ليستشعر الروعة والرهبة أمام هذا الخلق الهائل الجميل العجيب. فحسبه مشهد النجوم المتناثرة في الليلة الظلماء. حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء. حسبه الفجر المشقشق بالنور الموحي بالتنفس والانطلاق. حسبه الغروب الزاحف بالظلام الموحي بالوداع والانتهاء.. بل حسبه هذه الأرض وما فيها من مشاهد لا تنتهي ولا يستقصيها سائح يقضي عمره في السياحة والتطلع والتملي.. بل حسبه زهرة واحدة لا ينتهي التأمل في ألوانها وأصباغها وتشكيلها وتنسيقها..
والقرآن يشير إشاراته الموحية لتدبُّر هذه الآيات... الجليل منها والدقيق... وحسب القلب واحدة منها لإدراك عظمة فاطرها، والتوجه إليه بالتسبيح والحمد والابتهال..
إن كل ما في الكون، كل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر، مصرفة بقصد، مدبرة بحكمة ونظام وتوازن.. لا شيء عبث. لا شيء مصادفة، قال تعالى: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)]القمر.
كل شيء.. كل صغير وكل كبير. كل ناطق وكل صامت. كل متحرك وكل ساكن. كل ماض وكل حاضر. كل معلوم وكل مجهول. كل شيء.. خلقه الله تعالى بقدر..
توازن وقدر يحدد حقيقته. ويحدد صفته. ويحدد مقداره. ويحدد زمانه. ويحدد مكانه. ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء.وتأثيره في كيان هذا الوجود.
إن هذا النص القرآني القصير اليسير ليشير إلى حقيقة ضخمة هائلة شاملة، مصداقها هذا الوجود كله. حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود، ويتجاوب معه، ويتلقى عنه، ويحس أنه خليقة متناسقة تناسقاً دقيقاً. كل شيء فيه بقدر يحقق هذا التناسق المطلق، الذي ينطبع ظله في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود.
*****
إن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه، لما يدعو إلى الدهشة حقا، وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا. ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير. وكلما تقدم العلم البشري كشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون.. فيتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل:[ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)].الفرقان.
**************************************
التوازن في خلق الطبيعة
قال تعالى: [إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)]الأعراف.
الأرض كوكب يعج بالحياة ويحوي الكثير من الأنظمة المعقدة التي تعمل مع بعضها البعض بشكل متكامل وبدون أي توقف. وعندما نقارن الأرض بالكواكب الأخرى، يتضح من النظرة الأولى أن الأرض تتميز بتصميم خاص لحياة البشر، فقد بنيت بتوازن دقيق بحيث تغلب الحياة على كل بقعة من بقاعها، من أعالي الغلاف الجوي حتى أعماق الأرض.
إن حجم الأرض هو الحجم المثالي من حيت الكتلة لتتمسك بغلافها الجوي.إذا نقصت هذه الكتلة قليلاً، ستكون قوة الجاذبية غير كافية وسيتبدد الغلاف الجوي الفضاء، أما إذا ازدادت كتلتها قليلاً، فإن قوة الجاذبية ستزداد بشكل كبير وستتشرب الأرض كل الغازات الموجودة في الغلاف الجوي.
هناك كثير من التوازنات الأخرى التي وجدت على الأرض لأجل المجتمعات الحية. على سبيل المثال، إذا أصبحت الجاذبية أقوى من القيمة الحالية، سيحتفظ الغلاف الجوي بكثير من غاز الأمونيا وغاز الميتان السامين، وهو ما يعني نهاية الحياة. أما إذا أصبحت أضعف، فإن الغلاف الجوي للأرض سيخسر الكثير من الماء، والحياة على الأرض ستصبح مستحيلة. كما أن سُمك القشرة الأرضية يحوي نوع آخر من التوازن الدقيق في الأرض. فلو كانت القشرة الأرضية أسمك، لانتقل الكثير من الأوكسجين من الغلاف الجوي إلى القشرة الأرضية وهو ما كان سيسبب إلى تأثيرات خطيرة على الحياة البشرية.
أما إذا تحقق العكس وكانت القشرة الأرضية أرقّ، لكانت البراكين قد نشطت وعندئذٍ سيكون من الصعب أن توجد حياة. وأيضاً، التوازن في طبقة الأوزون في الغلاف الجوي هو أمر حاسم في حياة البشر، لأنه إذا كانت أقل سمكًا مما هي عليه حاليًا، لأصبحت حرارة سطح الكرة الأرضية منخفضة جدًا. أما إذا كانت أرقّ بقليل فإن حرارة سطح الأرض ستكون مرتفعة جدًا، وسينفذ الكثير من الأشعة فوق البنفسجية.
في الحقيقة.. إن فقدان حتى واحد فقط من هذه التوازنات سيضع نهاية للحياة على الأرض. ومن ناحية أخرى، لقد خلق اللهُ الكون بحكمته وقوته المطلقة، وصمم الأرض خصيصًا للحياة البشرية. ومع ذلك فإن معظم الناس يستخفـّون بهذه الحقائق ويمضون معظم حياتهم جاهلين بهذه الوقائع.
إن إظهار جزء فقط من التوازن والتناغم على الأرض يكفي للاستدلال على عظمة الله الذي بيده خلق كل شيء حتى أدّق تفصيل في الكون، وبدون شك إن من المستحيل لأي شخص أو أي كائن حي آخر أن يبني مثل هذا التوازن الهائل، ولا حتى جزء صغير منه كالذرة أو العناصر أو الجزيئات أو الغازات التي تحتاج إلى إنشاء ترتيب يعتمد على حسابات ومعايير معقدة إلى أبعد الحدود.. لا يستطيع أحدا أبدا أن يأتي بمثل جودة المخلوقات الموجودة.
ذلك.. لأن الأعمال كالتخطيط والتنسيق والتدبير والحساب يمكن أن يتحَقق فقط بالكائنات التي تملك الحكمة والمعرفة والقدرة. لكن من رتب وخطط ونظم الكون بأسره ليناسب الحياة البشرية على كوكب مثل الأرض ومن دعّم الحياة باتزان وتناسب دقيق تلقائي.. هو الله من له الحكمة والعلم والقوة اللانهائية الذي يخبرنا في القرآن أن من له عقل هو من يستطيع أن يدرك هذه الحقائق، قال تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)]آل عمران.
إن هذه الأرض واسعة عريضة بالقياس إلى البشر، وهي في الحقيقة ذرة أو هباء بالقياس إلى النجوم الكبيرة، ثم بالقياس إلى هذا الفضاء الذي تتوه فيه.. تتوه لولا القدرة التي تمسك بها وتنظمها في العقد الكوني الذي لا يتوه شيء فيه!
وآية خلق السماوات والأرض كثيراً ما يشار إليها في القرآن، وكثيراً ما نمر عليها سراعاً دون أن نتوقف أمامها طويلاً.. ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق.
إن خلق السماوات والأرض معناه إنشاء هذا الخلق الهائل الضخم العظيم الدقيق؛ الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. هذا الحشد الذي لا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات. تلك التي لا تزيد أرضنا الصغيرة عن أن تكون ذرة تائهة بينها تكاد أن تكون لا وزن لها ولا ظل! ومع الضخامة الهائلة ذلك التناسق العجيب بين الأفلاك والمدارات والدورات والحركات؛ وما بينهما من مسافات وأبعاد تحفظها من التصادم والخلل والتخلف والاضطراب؛ وتجعل كل شيء في أمرها بمقدار.
ذلك كله من ناحية الحجم العام والنظام، فأما أسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها؛ والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها.. فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان؛ وما عرف عنه إلا أقل من القليل، ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل!
قال تعالى: [وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)]يس.
والشمس تدور حول نفسها. وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها. ولكن عرف أخيراً أنها ليست مستقرة في مكانها. إنما هي تجري. تجري فعلاً. تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلاً في الثانية! والله ـ ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها ـ يقول: إنها تجري لمستقر لها. هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا هو سبحانه. ولا يعلم موعده سواه.
وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه. وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، ندرك طرفاً من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم: [ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)]يس.
قال تعالى: [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)]يس.
والعباد يرون القمر في منازله تلك. يولد هلالاً. ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتى يستدير بدراً. ثم يأخذ في التناقص حتى يعود هلالاً مقوساً كالعرجون القديم. والعرجون هو العذق الذي يكون فيه البلح من النخلة.والذي يلاحظ القمر ليلة بعد ليلة يدرك ظل التعبير القرآني العجيب: [حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)]يس.
والحياة مع القمر ليلة بعد ليلة تثير في الحس مشاعر وخواطر ندية ثرية موحية عميقة. والقلب البشري الذي يعيش مع القمر دورة كاملة، لا ينجو من تأثرات واستجابات، ومن سبحات مع اليد المبدعة للجمال والجلال؛ المدبرة للأجرام بذلك النظام. سواء كان يعلم سر هذه المنازل والأشكال القمرية المختلفة أو لا يعلم. فالمشاهدة وحدها كفيلة بتحريك القلب، واستجاشة الشعور، وإثارة التدبر والتفكير.
وأخيراً يقرر دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق: قال تعالى: [لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)]يس.فلكل نجم أو كوكب فلك، أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه. والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة. فالمسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليوناً من الأميال. والقمر يبعد عن الأرض بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال.. وهذه المسافات على بعدها ليست شيئاً يذكر حين تقاس إلى بعد ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا. وهو يقدر بنحو أربع سنوات ضوئية. وسرعة الضوء تقدر بستة وثمانين ومائة ألف من الأميال في الثانية الواحدة! (أي إن أقرب نجم إلينا يبعد عنا بنحو مائة وأربعة مليون مليون ميل!).
وقد قدر الله خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب. ووضع تصميم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع ـ حتى يأتي الأجل المعلوم ـ فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر. والليل لا يسبق النهار، ولا يزحمه في طريقه، لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبداً فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان!
قال تعالى: [وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)]يس.
وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفينة في الخضم الفسيح. فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطة سابحة في ذلك الفضاء المرهوب.
وإن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة، والكواكب السيارة. متناثرة في ذلك الفضاء، سابحة في ذلك الخضم، والفضاء من حولها فسيح فسيح وأحجامها الضخمة تائهة في ذلك الفضاء الفسيح!!!
قال تعالى: [فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)]الواقعة.
ولم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم إلا القليل، الذي يدركونه بعيونهم المجردة. ومن ثم قال لهم: [وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)]الواقعة.فأما نحن اليوم فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به، نصيباً أكبر بكثير مما كانوا يعلمون. وإن كنا نحن أيضاً لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم..
وهذا القليل الذي وصلنا إليه بمراصدنا الصغيرة، المحدودة المناظير، يقول لنا: إن مجموعة واحدة من مجموعات النجوم التي لا تحصى في الفضاء الهائل الذي لا نعرف له حدوداً. مجموعة واحدة - هي المجرة التي تنتسب إليها أسرتنا الشمسية - تبلغ الف مليون نجم!
يقول الفلكيون إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه. هذه كلها تسبح في الفلك الغامض؛ ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر، أو يصطدم بكوكب آخر، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي، يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة. وهو احتمال بعيد، وبعيد جداً. إن لم يكن مستحيلاً .
وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع إخوته، قد وضع هناك بحكمة وتقدير. وهو منسق في آثاره وتأثراته مع سائر النجوم والكواكب، لتتوازن هذه الخلائق كلها في هذا الفضاء الهائل.
فهذا طرف من عظمة مواقع النجوم، وهو أكبر كثيراً جداً مما كان يعلمه المخاطبون بالقرآن أول مرة، وهو في الوقت ذاته أصغر بما لا يقاس من الحقيقة الكلية لعظمة مواقع النجوم!
ولقد وصل العلم الحديث إلى أطراف من هذه الحقيقة، فيما يملك أن يدركه منها بوسائله المهيأة له.. وصل في إدراك التناسق بين أبعاد النجوم والكواكب وأحجامها وكتلها وجاذبيتها بعضها لبعض إلى حد أن يحدد العلماء مواقع كواكب لم يروها بعد؛ لأن التناسق يقتضي وجودها في المواضع التي حددوها. فوجودها في هذه المواقع هو الذي يفسر ظواهر معينة في حركة الكواكب التي رصدوها.. ثم يتحقق هذا الذي فرضوه، ويدل تحقيقه على الدقة المتناهية في توزيع هذه الأجرام، في هذا الفضاء الهائل، بهذه النسب المقدرة، التي لا يتناولها خلل أو اضطراب!
ووصل التناسق في وضع هذه الأرض التي نعيش عليها، لتكون صالحة لنوع الحياة التي قدر الله أن تكون فيها إلى حد أن افتراض أي اختلال في أية نسبة من نسبها يؤدي بهذه الحياة كلها، أو لا يسمح أصلاً بقيامها. فحجم هذه الأرض، وكتلتها، وبعدها عن الشمس. وكتلة هذه الشمس، ودرجة حرارتها، وميل الأرض على محورها بهذا القدر، وسرعتها في دورتها حول نفسها وحول الشمس. وبعد القمر عن الأرض وحجمه وكتلته وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض.. إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديراً، لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شيء، ولكانت هي النهاية المقدرة لعمر هذه الحياة على هذه الأرض!
يقول (أ. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان: " الإنسان لا يقوم وحده ".
" لو كان الأوكسجين بنسبة 50 بالمائة مثلاً أو أكثر في الهواء بدلاً من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل، فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان ـ كالنار مثلا ـ تتوافر له ".
وبنظرة سريعة لملايين الكواكب في الفضاء سيظهر أن التوازن الدقيق الضروري للحياة ليس نتيجة لشروط عشوائية. فهذه الشروط اللازمة للحياة معقدة جدًا و لا يمكن أن تتكون من تلقاء نفسها أو عن طريق الصدفة، وهذه الشروط خاصة للحياة فقط.
إن هذه التوازنات التي قد وصفناها بإيجاز حتى الآن ما هي إلا غيض من فيض ملايين التوازنات المترابطة والمعقدة، وبوجودها استطاع الناس الحياة في أمن وطمأنينة على الأرض.
هذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمر عليها سراعاً. بينما نتحدث طويلاً وطويلاً جداً. عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان؛ ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة لتعمل كلها في حركة منتظمة دون تصادم ولا خلل فترة من الزمان! ثم يستطيع بعض التائهين الضالين المنحرفين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد واستمر بدون خالق مدبر. ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء! من العلماء!
قال تعالى: [قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..(10)]إبراهيم.
_______________________________________________