جربه جزيرة المساجد
إذا كانت المعالم الأثريّة تشمل عادة مختلف آثار القصور و المنشآت العمرانيّة المختلفة فإنّها تتميّز في جزيرة جربة في مجموعة كثيفة من المساجد لعبت كلّها أدوارا حسّاسة في تاريخ الجزيرة، وهي زيادة على عراقتها قدّمت خدمات جليلة للمجتمع الجربي دينيّا و اجتماعيّا و اقتصاديّا و حضاريّا. فالمسجد هو مكان العبادة بمفهومها الواسع، فيه تقام الصّلاة و يُحفظ القرآن ويُتلى وتُنظّم الاحتفالات الدّينيّة و تُوزّعُ الصّدقات.
وبحكم الموقع المتميّز الّذي يحتلّه المسجد الجربي داخل الحومة، إذ يتوسّط كلّ المنازل، فإنّه يُمثّل مركز الحياة الاجتماعية للحومة، و يستقطب بالتّالي كلّ المتساكنين ليجمعهم في كلّ المناسبات بل هو على اتّصال مستمر بكلّ الأهالي أثناء الصّلوات و أثناء المهام الأخرى الّتي يقوم بها المسجد فيتحوّل إلى مدرسة تعجّ بطلبة العلم من مختلف الأعمار و المستويات، و تُلقى فيها مُختلف الدّروس بداية من القرآن إلى الفقه و الحديث و علم الكلام والآداب والرّياضيّات و الفلك...
فتخرّجت من المساجد الجربيّة ثلّة مرموقة من الشّيوخ و العلماء و المؤلّفين خَلّدت أسماءهم كتب السّيَر و التّاريخ. و يقوم المسجد أيضا بوظائف قضائيّة مختلفة من إبرام العقود (الزّواج و المعاملات بصفة عامّة) و الفصل في القضايا الاجتماعية والاقتصاديّة للمجتمع الجربي. و كانت المساجد تلعب دورا عسكريّا و حربيّا، و الدّليل على ذلك شكل عدد من المساجد الأثريّة القديمة الّتي تشبه إلى حدّ كبير الحصون الحربيّة (جامع تاجديت)،
أمّا من النّاحية الهندسيّة فإنّ مساجد جزيرة جربة تتميّز بطابع يمكن أن نجزم بأنّه فريد من نوعه، سواء كان ذلك على مستوى التّوزيع الجغرافي للعمارة إذ نلاحظ أنّ المساجد موزّعة في الجزيرة بصفة متوازنة و كثيفة تدلّ على أنّها لم تٌشيّد بطريقة عشوائيّة وإنّما كانت تستجيب لحاجيات كلّ الحومة و لتخطيط مسبق يشمل كامل الجزيرة على مستوى التّصميم و البناء.
و يمتاز المسجد الجربي بالبساطة و التّواضع، فلا نجد فيه الزخرفة المعروفة في أغلب المساجد التّونسيّة مثلا، وإن وُجدت فإنّها لا تتعدّى بعض الآيات القرآنيّة و الأحاديث و الأدعية. كما تخلو العمارة الجربيّة من كلّ أشكال البهرجة، لونان يطغيان على كلّ المعالم: الأبيض أساسا و الأخضر بالنسبة للأبواب و النّوافذ.
التصميم الهندسي للمسجد الجربي لا يختلف عن التّصميم الجربي عموما: إنّه وظيفي قبل كلّ شيء، هنا تكمن جماليّته، باستثناء الصومعة فإنّها تظهر و كأنّها الجزء الّذي يجوز للمصمّم أن يتصرّف فيه ليطبع المَعلم بطابع يميّزه عن بقيّة المعالم الجربيّة الأخرى.
أمّا في عصرنا الحالي فإنّ حركة تشييد المساجد في الجزيرة مازالت متواصلة، فهل هي تواصل أم قطيعة خاصّة إذا تمعّنا في الدّوافع الّتي تكمن وراء هذه الحركة و في الأشكال الهندسيّة الطّاغية؟
القيمة الفنيّة و التاريخيّة لمساجد جربة
تمتلك جربة تراثا معماريّا إسلاميّا فريدا من نوعه يشمل كلّ من العمارة الدّينيّة و العمارة المدنيّة و تُشكّل العمارة الدينيّة و خاصّة المساجد أهمّ ما يُميّز هذا التّراث من أوجه عديدة:
· أهميّة عدديّة حيث يُقدّر مُجمل المعالم الدّينيّة حسب إحصاء أواسط هذا القرن 288 معلما.
· أهميّة تاريخيّة من حيث تمثيلها لمعظم ردهات التّاريخ الإسلامي للجزيرة و من حيث تعبيرها عن قيم و تطوّرات مجتمع إباضي وجد في الجزيرة ملاذا له.
ا- الأهميّة الفنيّة:
1. تفرّد الرّوح الإنشائيّة:
أ) طرافة التخطيط:
تتميّز مساجد جربة بتخطيطها المنفتح حيث يتألّف المعلمُ من وحدات معماريّة عديدة منها ما هو مُخصّصٌ للشعائر بصفة رئيسيّة كالمساجد و "البرطال" و "دكّات" الصلاة الإضافيّة و منها ما هو مخصّص للطهارة "كالميضة" و منها ما هو مخصّص للإقامة كالغرف أو للتدريس كالكُتّاب أو للأنشطة الاقتصاديّة كمخازن الخزن أو للمنافع الإجتماعيّة الأخرى، مطابخ و غيرها. و ميزة هذه الوحدات أنّها متناثرة ضمن فضاء مبلّط و مُعدّ لتجميع المياه الّتي تُخزن في مواجل و فسقيّات و محيط بالمعلم سور قليل الارتفاع تمكّن من رُؤية جميع مُكوّناته.
ب) تنوّع الأساليب الإنشائيّة:
تنوّع مساجد جربة بشكل مُلفت للإنتباه بحيث يبدو لأوّل وهلة أنّ كلّ معلم يُمثّل نموذجا في حدّ ذاته و يمكن أن نتبيّن صنفين رئيسين من المعالم بكل صنف مجموعات متباينة.
*المساجد المنقورة:
تعبّر هذه المساجد عن تواصل بين التقاليد البربريّة القديمة و العمارة في الحقبات الإسلامية. و لعلّ هذا الصنف اقدم ما عرفته الجزيرة و تتدرّج هذه المعالم من المنقورة كليّا في الصخر و المنحدرة من حيث تخطيطها مباشرة من القصور البربريّة إلى المعالم المنقورة كليا في الصخر و ذات التخطيط المتطابق مع التخطيط الكلاسيكي للمساجد الإسلاميّة (جامع البرداوي) إلى المعلم المنقورة جزئيّا في الصخر و المقامة بمواد البناء المتداولة.
*المساجد الناتئة:
تنوع الرّوح الإنشائيّة في هذه المعالم سواء من حيث مواقعها أو من حيث وظائفها حيث نجد:
- مساجد الشواطئ وهي بمثابة نقاط المراقبة و الإنذار المُبكّر و تتميّز بمحدوديّة حجمها.
- معاقل الأحياء وهي بمثابة الحصون القريبة من السّواحل و تتميّز بأسلوبها الإنشائي المتين و بتمتّعها بتجهيزات دفاعيّة متميّزة.
- المدارس العلميّة المتميّزة بتعدّد ملحقاتها من غرف طلبة و غرف تدريس و منافع اجتماعيّة.
- مساجد الأحياء وهي المعالم المخصّصة للاستعمال المحدود ضمن أصغر خليّة... تنظيم الفضاء الاجتماعي "الحومة".
2.التفرّد الزخرفي:
تسيطر على مساجد جربة روح البساطة لكن ذلك لا يمنع من تواجد عدد هام من الأعمال الزخرفيّة المتنوّعة و المتفرّدة من حيث أسلوبها العام المعتمد على الأشكال الهندسيّة دون سواها: مُثلّثات، مُعيّنات، دوائر، أنصاف دوائر؛ وهو أسلوب لا نجد له مثيلا في الفنون الزخرفيّة الإسلاميّة الكلاسيكيّة.
من جهة أخرى تحتوي مساجد جربة على مجموعة هامّة من النقائش محليّة التنفيذ و الّتي إضافة إلى تأريخها للمعالم تحتوي على معطيات اجتماعية و سياسيّة هامة.
تبرز مساجد جربة لأوّل وهلة و لذوي النظرة السطحيّة كأنّها عمائر عفويّة الطابع بينما يدحض تفحّصها المُعمّق هذه الدّعاوي حيث تدلّ مساجد جربة أنّ جماليّتها لا تكمن في طابعها العفوي بل في حسن تناسقها و وجود علاقات تناسبيّة واضحة في تصوّر مختلف الوحدات المعماريّة أو في تنفيذ مختلف العناصر الإنشائيّة (علاقة الطول بالعرض و بالارتفاع).
اا-القيمة التّاريخيّة:
تفتح دراسة مساجد جربة آفاقا رحبة في مجال المعرفة التّاريخيّة سواء في ما يتعلّق بجزيرة جربة أو ما يتعلّق بمُجمل التاريخ المعماري.
فهي تُغطّي معظم ردهات التاريخ الإسلامي ممّا يمكّن من دراسة تطوّر توزيعها الّذي يفتح بدوره آفاق البحث في مجالات عديدة.
- في المجال الاجتماعي: من خلال الأسماء و المواقع و التوزيع المذهبي للمعالم.
- في المجال الاقتصادي: من خلال تبيّن فقرات الإنشاء و تمييز أطوار أساليب البناء و ما تعبّر عنه إمكانات اقتصاديّة.
- في المجال السيّاسي: تُعتبر مساجد جربة شواهد هامّة على:
. مدى ثقل النُّخب السّياسيّة المحليّة.
. مدى ارتباط النّخب المحليّة بحكّام البلاد.
. علاقة الجزيرة عموما بالحكم المركزي.
الروابط المفضلة