


وصف الله سبحانه رسوله الكريم بأعلى الأوصاف ، وأكمل الصفات فكان النبي-صلى الله عليه وسلم- يتحلى ويتجمل بأخلاق عظيمة، فكان -صلى الله عليه وسلم - يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول،وحسن المعاملة والتواضع والرحمة والرأفة , فكان خلقه عظيم في كل جوانب حياته .
سُئلت السيدة عائشة مرة عن خلق الرسول - صلى الله عليه وسلم- فقالت: (كان خلقه القرآن)، ولعل أبلغ وصف وأدق تصوير لخلق الرسول الكريم ما وصفه به القرآن بقوله الجامع الموجز قوله تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم } (القلم:4) وكفى بشهادة القرآن شهادة .
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي ـ يومئذ آدم فمن سواه ـ إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر " رواه الترمذي .
ومعنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا فخر : أي لا أقوله تكبرا وتفاخرا وتعاظما على الناس، بل أقوله تواضعا وشكرا لله ولأنه من البلاغ الذي كُلف به من رب العزة سبحانه وتعالى أن يبلغه للناس بأنه سيدهم وهذا عن أمر وتكليف من الله تعالى له , إنه يعلمهم أنه سيدهم .
خلق التواضع
خلق التواضع من الأخلاق الفاضلة الكريمة ، والشيم العظيمة التي حث عليها الإسلام ورغَّب فيها ، وتمثله رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجاً عملياً في حياته .
فقد كان صلى الله عليه وسلم مع علو قدره ، ورفعة منصبه أشد الناس تواضعاً ، وألينهم جانباً ، وحسبك دليلاً على هذا أن الله سبحانه وتعالي خيَّره بين أن يكون نبياً ملكاً ، أو نبياً عبداً ، فأختار أن يكون نبياً عبداً صلوات الله وسلامه عليه
فهو صلى الله عليه وسلم لم يرض لنفسه أن يتصف بغير الوصف الذي وصفه الله به ، وهو وصف العبودية ، وأنه رسول مبلغ عن الله ، وليس له غاية غير ذلك مما يتطلع إليه الناس، ويتسابقون إليه .
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بقوله : " يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب ، جاءني مَلَك ، فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : إن شئت نبيًا عبدًا ، وإن شئت نبيًا ملكًا ، قال : فنظرت إلى جبريل ، قال : فأشار إلي ، أن ضع نفسك ، قال : فقلت : نبيًا عبدًا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئًا ، يقول : آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد " رواه الطبراني .
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا محمد بن عبد الله ، أنا عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله " أخرجه البخاري .
وخلق التواضع كان سمةً ملازمةً له صلى الله عليه وسلم في حياته كلها ، في جلوسه ، وركوبه ، وأكله ، وفي شأنه كله
ففي أكله وجلوسه نجده يقول :" إنما أنا عبد ، آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد " رواه ابن حبان .
وفي ركوبه يركب ما يركب عامة الناس ، فركب صلى الله عليه وسلم البعير و الحمار والبغلة والفرس
قال أنس رضي الله عنه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشهد الجنازة ، ويجيب دعوة العبد ، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف " رواه الترمذي.
وكان يوصي صلوات الله عليه بالتواضع أخرج الإمام مسلم في صحيحه فقال : قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا فَقَالَ : « وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ «
وقال صلى الله عليه وسلم : " ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " رواه مسلم .

صور من تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم في السلم والحرب وبين أهله وأصحابه والضعفاء والصغار
تواضعه برعيه الغنم وتحدثه بذلك صلى الله عليه وسلم
أخرج ابن ماجه فقال : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَاعِيَ غَنَمٍ ,
قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ : وَأَنَا كُنْتُ أَرْعَاهَا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْقَرَارِيطِ " قَالَ سُوَيْدٌ يَعْنِي كُلَّ شَاةٍ بِقِيرَاطٍ
قال أهل العلم : رعى الغنم وظيفة ارتضاها الله لأنبيائه.
فما السر في ممارسة الأنبياء لها ؟
قالوا : إن من أسرارها أنها تربي النفوس على التواضع وتزيد الخضوع لله تعالى ومن أسرارها أنها تربي على الصبر وتحمل المشاق .
تواضعه مع الأنبياء
من صور تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كره أن يُفضل على الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مع أنه خاتمهم وأفضلهم والقران قد أثبت التفضيل بين الأنبياء والرسل في قوله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } (البقرة:253)
وما نبي من الأنبياء إلا وقد أخذ الله عليه العهد والميثاق أن يؤمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينصره إذ بُعث
كما قال الله جل وعلا (( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) آل عمران :81.
وفي الحديث الذي أخرجه مسلم والترمذي وأحمد من حديث أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال " فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب ( رواية البخاري مسيرة شهر ) , وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً وأرسلت إلى الخلق كافة ختم بي النبيون " صحيح رواه البخاري ومسلم .
إلا أن من تواضعه صلى الله عليه وسلم نهى أن يفضله أحد على الأنبياء
فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا ينبغي لعبد أن يقول : إنه خير من يونس بن متى " ( البخاري ) .

تواضعه مع أصحابه
كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ متواضعا مع الناس ، ومن شدة تواضعه أنه لا يُعرف من بين أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ، فلا يتميز عليهم بملبس أو مركب أو مجلس ، كما هي عادة الكبراء والأغنياء
وإذا جاء الغريب ما عرفه من بينهم حتى يسأل عنه، كما روى أبو ذر وأبو هريرة ـ رضي الله عنهما ـ فقالا : ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجلس بين ظهري أصحابه ، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل .. ) ( أبو داود ) .
وكان صلى الله عليه وسلم يمنع أصحابه من القيام له ، وما ذلك إلا لشدة تواضعه فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على عصاً ، فقمنا له ، قال لا تقوموا كما يقوم الأعاجم ، يعظِّم بعضهم بعضاً ) رواه أحمد وأبو داود
وهذا خلاف ما يفعله بعض المتكبرين من حبهم لتعظيم الناس لهم ، وغضبهم عليهم إذا لم يتمثلوا لهم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام ( من أحب أن يتمثَّل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار) رواه أحمد والترمذي و أبو داوود.
قال أنس ـ رضي الله عنه ـ : ( ما كان شخص أحب إليهم رؤيةً من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك ) رواه أحمد .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " رواه البخاري

تواضعه في بيته
خير من يحدثنا عن هذا الجانب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تقول وقد سألها سائل: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت يكون في خدمة أهله ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة )
وفي رواية عند الترمذي قالت: ( كان بشرًا من البشر، ينظف ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه ).
تواضعه مع الضعفاء وعامة المسلمين
ومن تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه يجيب دعوة من دعاه ولو كان فقيرا، ويقبل من الطعام ما كان يسيرا، ولا يشترط في ذلك، أو يغضب من دعوة يراها أقل من حقه ، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " لو دعيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت ، ولو أهدي إلي ذراع أو كُرَاع لقبلت " رواه البخاري .
و الكُراع من الدابة ما دون الكعب .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يمل من ذوي الحاجات، بل يستمع إليهم ، ويقضي حاجاتهم ، فيجيب السائل ، ويعلم الجاهل ، ويرشد التائه ، ويتصدق على الفقير، ولا يرد أحدا قصده في حاجة .
وكان أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ يتبركون بالماء يغمس يده الشريفة فيه ، فما يردهم ، ولا ينزعج من كثرة طلبهم .
قال أنس ـ رضي الله عنه : " كان إذا صلى الغداة جاءه أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه " رواه البخاري .
وعن أنس ـ رضي الله عنه : " أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت : يا رسول الله ، إن لي إليك حاجة ، فقال : يا أم فلان ، انظري أيَّ السكك شئت حتى أقضيَ لك حاجتك ، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها " رواه مسلم .
قَالَ النووي : خلا معها في بعضِ الطرق : أي وقَف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة ، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية ، فإنَّ هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها، لكن لا يسمعون كلامها لأنَّ مسألتها مما لا يظهره " أهـ .
وفي ذلك بيان لتواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوقوفه مع المرأة الضعيفة ..
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينزع يده ممن يصافحه حتى ينزعها الذي يسلم عليه ، ويزور الضعفاء والفقراء من المسلمين ، ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم .
تواضعه مع الصغار
عن أنس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم " . رواه ابن حبان .
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأسلوب يدخل السرور والفرح إلى نفوس هؤلاء الناشئة، ويعطيهم الدفعة المعنوية على التعوّد في محادثة الكبار والرّد والأخذ والعطاء معهم، وهذا من حكمته -عليه الصلاة والسلام-.

تواضعه يوم فتح مكة
ويوم الفتح الأكبر حين دخل مكة منصورا مؤزرا، دخلها وقد طأطأ رأسه تواضعا لله تعالى ، حتى إن رأسه ليمس رحله من شدة طأطأته .
ولما هابته الرجال فارتعدوا أمامه هَوَّن عليهم ، وسكن من روعهم ، وأزال ما في قلوبهم .
عن أبي مسعود أن رجلا كلم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد " حديث صحيح
والقديد هو اللحم المجفف في الشمس .
تواضعه في الحرب
أخذه صلى الله عليه وسلم بمشورة أصحابه , ففي غزوة الخندق أخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي سلمان وحفر الخندق وفي بدر أخذ برأي الحباب بن المنذر في أن يجعل مياه بدر خلفه لئلا يستفيد منها المشركون.
وكان يقول صلى الله عليه وسلم غالباً وفي مواقف كثيرة لأصحابه :" أشيروا علي – أشيروا علي "
نقله صلى الله عليه وسلم للتراب يوم الخندق :
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغبر بطنه يقول : والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا , فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا , إن الألى قد بغوا علينا إن أرادوا فتنة أبينا , ويرفع بها صوته : أبينا، أبينا ".
أن خلق التواضع كان خلقاً ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من الأخلاق التي ينبغي على المسلم أن يتحلى بها و يحرص عليها إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كي ينال خيريِّ الدنيا والآخرة .

تعليق