كان من أكابر العلماء، والأولياء والصالحين،
ولنبدأ بنسبه فنقول:
أما نسبه فهو: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَة الجعفي.
ولد - رضي الله عنه - ببخارى بالإجماع في يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشر ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائه، وحج - رضي الله عنه - مع أمه وأخيه أحمد.
وكان أخوه أسنَّ منه، فأقام هو بمكة يطلب العلم مجاوراً، ورجع أخوه أحمد إلى بخارى فمات بها.
وأما حفظه وسيلان ذهنه ففي الغاية والنهاية، نقل عنه أنه قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، قيل له: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل.
ونقل عنه أنه قال: أحفظ مائه ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح.
واتفق له حكاية عجيبة تدل على قوة حفظه
وهي: أنه لما دخل بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد إلى إسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة نفس، لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، فلما اجتمعوا وحضر في المجلس خلق كثير واطمأن المجلس بأهله، انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فمازال يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ والبخاري يقول له: لا أعرفه، فكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فهم الرجل، من كان لم يدر القصة يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ، ثم انتدب رجل أيضاً من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول له: لا أعرفه، ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا.
فلما عرف أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاة حتى أتى على تمام العشرة فرد كل سند إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة.
ذكر مشايخ البخاري
وأما مشايخه الذين كتب عنهم فقد نقل عنه أنه قال: كتبت عن ألف وثمانين نفساً، ليس منهم إلا صاحب حديث.
ونقل عنه أنه قال: ما قدمت على شيخ إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به.
وأما الجماعة الذين قرؤوا عليه وأخذوا عنه الحديث فخلق كثيرون نحو مائة ألف أو يزيدون، أو ينقصون، وكان يحضر مجلسه أكثر من عشرين ألفاً يأخذون عنه.
وأما ثناء الناس عليه فقد قال ابن خزيمة: «ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه وأحفظ».
رحلته في طلب الحديث
وأما رحلته لأجل أخذ العلم والحديث من العلماء فقد رحل رحلات واسعات، وكتب عن شيوخ متوافرات، وافية متكاثرات، ونقل عنه أنه قال: «دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، لا أُحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين».
كتابه الصحيح وسبب تأليفه
وأما كتابة الصحيح فليس بعد القرآن كتاب أصح منه، وهو أصح من صحيح مسلم على الصحيح، واسمه «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه»
وروي عنه أنه قال: «صنفت كتاب الصحيح في ستة عشر سنة، وخرجت من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله عز وجل».
وسبب تصنيفه لهذا الكتاب ما نقل عنه أنه قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام كأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقال: أنت تذب الكذب عن حديثه - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي حملني على إخراج الصحيح».
ونقل عنه أنه قال: «ما وضعت في كتابي هذا حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين».
قيل: كان تصنيفه لهذا الكتاب بمكة المشرفة، والغسل بماء زمزم، والصلاة خلف المقام.
وقيل: كان بالمدينة الشريفة، وترجم أبوابه في الروضة المباركة، وصلى لكل ترجمة ركعتين .
وله تصانيف كثيرة غير الصحيح نقل عنه - رضي الله عنه - أنه قال: «أقمت بالبصرة خمس سنين مع كتبي، أصنف وأحج في كل سنة، وأرجع من مكة إلى البصرة، قال: وأنا أرجو أن الله يبارك للمسلمين في هذه المصنفات» ولقد بارك الله فيها.
وأما سيرته ومناقبه وشمائله وفضائله وزهده وروعة فكثيرة لا حصر لها.
ومن فضائله: أنه قال على سبيل التحدث بالنعمة: «إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحد من هذه الأمة» .
و أن والده إسماعيل كان كثير المال , فلما مات والده إسماعيل انتقل المال إليه , ومع كثرة هذا المال كان يأتي عليه نهار لا يأكل فيه، وكان أحياناً يأكل لوزتين أو ثلاثاً، وكان يتصدق بماله على الفقراء.
وقد زهد في الدنيا وآثر غيره على نفسه، وصبر على شدة الجوع مع كثرة ما معه من مال .
وفاة البخاري :
وكانت وفاته رحمه الله ليلة السبت ليلة عيد الفطر، سنة ست وخمسين ومائتين، عن اثنين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوماً وصفته: أنه كان نحيف الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير وحق أن ينشد فيه.
تراه من الذكاء نحيف الجسم ... عليه من توقده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعالي
... فليس يضيره الجسد الضئيل
من كتاب : شرح صحيح البخاري لشمس الدين السفيري
الروابط المفضلة