مااشبه اليوم بالبارحة

ماأشبه اليوم بالبارحة



تحكي السيرة أن المشركين تمخض حقدهم عن عقد معاهدة تعتبر المسلمين ومن يرضى بدينهم أو يعطف عليهم حزباً واحداً دون سائر الناس، ثم اتفقوا على مقاطعتهم، فلا يبيعونهم أو يبتاعون منهم شيئاً، ولا يزوجونهم أو يتزوجون منهم، وكتبوا ذلك في صحيفة علقوها في جوف الكعبة توكيداً لنصوصها.

ولاشك أن المتطرفين في العداوة قد نجحوا في فرض رأيهم وإشباع ضغنهم، فاضطر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى الاحتباس في شِعْب بني هاشم.

وضيق الحصار على المسلمين، وانقطع عنهم العون، وقل الطعام حتى أجهدوا تماما، وسمع بكاء أطفالهم من وراء الشعْب، واستحكمت الأزمات، ومع اكفهرار الجو في وجوههم، إلا أنهم تحملوا في ذات الله الويلات.

ولم تفتر حدة الوثنيين في الحملة على الإسلام ورجاله، وفي تأليب العرب عليهم من كل فج،قال السهيلي: كانت الصحابة إذا قدمت عير إلى مكة، يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام قوتاً لعياله، فيقوم أبو لهب فيقول: “يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً، وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فأنا ضامن أن لا خسار عليكم”، فيزيدون عليهم السلعة قيمتها أضعافاً حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يده شيء يطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً.

إن المتطرفين من ذوي الحدّة يوجدون في كل زمان ومكان، أليس شِعب غزة اليوم، كشعب أبي طالب بالأمس؟! أليس ما يحدث لشَعب غزة هو ما حدث للأصحاب من قبل؟!


إنها البشرية الظالمة المتطرفة، مذهبٌ واحد، وسيرةٌ واحدة، قوم سخروا من جميع القيم الفاضلة واستخفوا بالأمانات والذمم.


لكن من الطرف الآخر، نجد أهل الوفاء حتى من المشركين يمدون يد العون لهؤلاء المظلومين، فقد أحزنت تلك الآلام بعض ذوي الرحمة من قريش، فكان أحدهم يوقر البعير زاداً ثم يضربه في اتجاه الشعب ويترك زمامه ليصل إلى المحصورين فيخفف شيئاً مما بهم من إعياء وفاقة، أليست سفن أو قوارب كسر الحصار عن غزة، دليلا على أن أهل الرحمة ما زالوا أوفياء لإنسانيتهم وكرامتها المهدرة؟ فإذا يممنا وجوهنا نحو الطرف المستضعف المقهور، فلسوف نجد التشابه كذلك، فالوحي كان ينزل مطالباً المسلمين باليقين والثبات، ويعلمهم كيف يستمسكون بحقائق الإيمان التي عرفوها، وكيف يستمدون من سموها وصدقها ما يراغمون به الأعداء والأحداث، لقد كان التفاني عنوان هؤلاء المخلصين الصابرين، فلا يربي النفوس على التجرد كهذا التفاني في الحق، والوثوق فيه.

لكن بعد الامتحان يأتي الفرج، فقد شرع فريق من المشركين يعمل على إبطال هذه المقاطعة ونقض الصحيفة التي تضمنتها، وأول من أبلى في ذلك بلاء حسناً “هشام بن عمرو” فقد ساءته حال المسلمين ورأى ما هم فيه من تعب وظلم، فمشى إلى زهير بن أبي أمية، فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت؟ ثم ذهبا إلى المطعم بن عدي، حتى تكتل فريق منهم، ثم قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا كلمة “باسمك اللهم”.

هكذا نجد إخواننا في غزة في التجرد والتفاني، فإن استطاع الأعداء أن يغلبوهم على أرضهم، فلن يغلبوهم على نفوسهم، وإن استطاعوا أن يقهروهم في أبدانهم، فلن يقهروهم على أرواحهم، كأنما أرادوا أن يقول للدهر، أيها الدهر كُن ما شئت، لن نساوم ولن نبدل ولن نستسلم.

ولسوف نجد من أهل المروءة في العالم الحر، من يتكاتف لشق هذه الصحيفة الظالمة، ومد يد العون لفك الحصار الظالم، أما من بغى وظلم، أو رضي بالظلم، فنسوق إليه قول رب العالمين: “يَا أَيهَا الناسُ إِنمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم متَاعَ الْحَيَاةِ الدنْيَا ثُم إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (يونس:13).

إن ما يزرعه البشر الآن، سوف يجدون حصاده هناك، في الدار التي طالما كذبوا بها، أو تناسوا أمرها، حيث هناك الحساب الدقيق، فلا بخس ولا شطط ولا تفريط: “هُنَالِكَ تَبْلُو كُل نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَق” (يونس: 30).

ألا ما أشبه اليوم بالبارحة، شِعبٌ صغير كشعب أبي طالب، وشَعب وادع مستبسلٌ يريد الحق، لكن أهل الأرض يقفون ضده، كما وقفوا قديما ضد أهل الحق والبسالة، ولسوف ينتصر هذا الشعب ولو بعد حين، وإن غداً لناظره قريب.

المصدر جريدة الخليج - الكاتب أسامة طه حمود