وانقسم بنو إسرائيل تجاه قارون وتصرفاته وطغيانه إلى فريقين:
أناس خُدِعوا وأُعجبوا بقارون، وفُتنوا بكنزه، كلما رأوه في زينته قالوا:
{يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وهذا حال الماديين الذين لا يرون في الحياة سوى المال والشهوات،
وأما الفريق الآخر فهم العاقلون القانعون، الذين يرون بل ويؤمنون أن الحياة الدنيا جميلة بتسخير طيبتها في طاعة الله،
وأنها ابتلاء وامتحان، فهذا الفريق لم يسكت بل قام بواجبه وأدى ما عليه تجاه قارون، فنصح، وقالوا:
يا قارون!{لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} لا تفرح الفرح الذي يدفع للكبر والبطر، لا تفرح الفرح الذي ينسي حق الله في هذا المال،
وحق عباده من البائسين والمحرومين، وقالوا له مذكرين:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ
وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}،
ما أروع هذه يا عباد الله! رغم وجازتها فقد اشتملت على خمس جمل، كل جملة تقرر قاعدة من القواعد القرآنية الثابتة
في كيفية التعامل مع المال، وكيفية توظيفه لنفع صاحبه وإسعاد الآخرين، وجعله وسيلة إلى تحقيق عبودية الله ونيل رضوانه،
فالقرآن لا ينهاك عن كسب المال، بل يوجهك كيف صرف المال، فخذ من حلاله ما تشاء، بشرط ألا يشغلك عن دينك،
وعن حق الفقراء والمحتاجين، فأحسن إليهم كما أحسن الله إليك، ليحفظ عليك نعمتك، ويزيد في مالك، وبركته،
دع الحرص على الدنيا وفي العيش فلا تطمع
ولا تجـمع من المـال فلا تـدري لمن تجمع
غـني كل من يقـنع فقـير كل من يطمع
عباد الله! هل تدرون كيف استقبل لكن قارون رفض النصيحة، وأعمى عينه؟! وأنى لمن أعماه المال وأطغاه أن يستمع لوعظ أو أن يأخذ به، ولذا لم يكتف قارون برد النصيحة فقط، بل زاد الطين بلة، وأمعن في العلو والتكبر والفساد،
وأضاف النعمة إلى علمه وكسبه ومهارته، فقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}
أي: لست بحاجة إلى نصحكم، فأنا أرجحكم عقلاً، وأسدُّكم رأيًا، وما أوتيت هذا المال إلا لأني حاذق اقتصادياً،
عارف بالتطور وحضاراته، وما أنتم إلا رجعيون ظلاميون، فاحتفظوا بالنصيحة لأنفسكم، وقوِّموا بها أموركم،
وإلى اليوم ما زالت هذه هي حجة طغاة المال والفكر،
ولذا كان رد الله على قارون وأمثاله: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا}
وفي هذا تحذير شديد لقارون، وأنه سيلقى مصير هؤلاء الجاحدين، وأن كل جاحد أسخط الله سيلقى نفس المصير،
{وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} لا يسألهم الله بل يعاقبهم ويعذبهم على ما يعلمه منهم،
وأيضاً في هذا تحذير شديد لكل صاحب مال لا يعمل فيه بأمر الله، فالمال مال الله، وإنما هو عارية عندكم، ستسألون عنه،
والكريم عند الله هو التقي، وليس مجرد الغني، وهذا صريح الوحيين، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}،
وقَالَ عليه الصلاة والسلام:
((إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا
مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ))
الراوي : عبدالله بن مسعود | المحدث : الألباني | المصدر : السلسلة الصحيحة
الصفحة أو الرقم: 2714 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح
وهذا نص صريح لمن أعطاه الله الدين، بأن الله يحبه فهنيئاً له بهذا المحبة،
الله العظيم مالك الملك يحبك، وإذا أحبك أصبح سمعك وبصرك، ويدك ورجلك أي بالحفظ والتوفيق والرعاية،
نسأل الله الكريم من فضله، أليس هذا هو الكنز الحقيقي، بمثل هذا يكون الفخر والتباهي،
إنه عزاء لكل فقير ومحتاج في الدنيا، وهو نذير وتحذير لكل غني أن يتنبه ويتوجس،
يقول أحد المغنين المشهورين التائبين، وبعد أن هرب من مجتمع الطرب وأهله، فعرف بعضهم طريقه،
تذمر وقال:" أسأل الله الثبات، ستكثر عليّ المحن والامتحانات، تقول زوجته: وبالفعل حضر شخصان من شركة غنائية كبيرة
وعرضا عليه شيكاً بمبلغ فاق المليون ريال، مع تأمين المنزل والسيارة مقابل العودة للغناء، وكان وضعنا المادي سيئاً جداً
وكنا بحاجة ماسة للمال، إلا أنه فاجأهم بقوله:"ما عند الله خير وأبقى"، فغادر الشخصان المنزل لكن ما لبثا أن عادا في اليوم التالي
لتقديم العرض بصورة موسعة ومغريات كبيرة جداً، إلا أنه ردد عليهم:"ما عند الله خير وأبقى".
تقول زوجته: وكان يقول: إنه لو أعطي أموال قارون لما عاد إلى ذلك لأنه وجد الراحة النفسية والسعادة التي عاش زمنا طويلاً
يبحث عنها، وكان يدعو الله أن يثبته حتى الممات، ونحسب أنه تحقق له ما أراد، فقد مات بخاتمة حسنة،
نسأل الله لنا وله المغفرة والمتاب.
إذا فالسعادة في تقليل الرغبات لا في زيادة الثروات، " ولا يملأ ابن آدم إلا التراب.."، فما أروع القناعة والرضا،
وما أجمل أن تنظر في أمور الدنيا لمن هو أقل منك وإلا فلا نهاية للشره والطمع وشرور النفس،
فإنه لما قارون {..عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ. قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
خرج في زينته، عليه ثياب الأُرْجُوان، وهو الشديد الحمرة من أثر النعيم، راكباً براذين بيض، عليها سروج الأرجوان،
وعليهم المعصفرات مع ثلاث مائة جارية على البغال الشهب، عليهن ثياب حمر، نحو أربعة آلاف دابة،
عليهم وعلى دوابهم الأرجوان، خرج في زينة عظيمة، وتجمل باهر، من مراكب وملابس فاخرة عليه وعلى خدمه وحشمه،
فلما رآه مَنْ لا يعيش إلا للدنيا فقط، تمنوا فقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
فقال العقلاء محذرين وناصحين: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ}
وهكذا ينقسم الناس اليوم عند رؤيتهم لمواكب الأغنياء والمشاهير بين انبهار واعتبار،
يُتبع ,,
الروابط المفضلة