السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
في رحاب الآية السادسة من سورة المائدة
عند اطلاعي على تفسير هذه الآية في عدة كتب و تفاسير رأيت فيها إضاءات رائعة لربما تخفى على من يقراها في عجل و لكن يا لروعة البيان و دقة الكلام الرباني! لا كلمة تذكر إلا و لها قيمتها و في مكانها و بميزان و إحكام يعجز أمهر الكتاب و يبهر أحذق الشعراء فلا مكان لهم أمامه و لاقدرة لهم على الإتيان بمثله .. زد على ذلك التناسق في تعليم العباد لأحكام عباداتهم و ترتيب تلك الأحكام و الشرائع على نحو فريد متفرد لا يمكن لبشر أن يأتي بتعليم أو حكم متناسق واضح كوضوحه! فهيا معاً أخواتي نبحر في بعض من معاني الآية الكريمة سائلة لكن ولي النفع بهذا الجهد بإذنه.
الآية السادسة , سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
يبتدئ الله تعالى هذه الآية بخطاب المؤمنين و هذا يعني أن العمل بما أمرت
به الآية فيما يلي و هو الطهارة للصلاة بالوضوء و التيمم لهو من لوازم
الإيمان الذي لا يتم إلا بها فياله من إيجاز في الخطاب يحمل في طياته
المعاني النفيسة و من جانب آخر فهذه الآية مترتبطة ارتباطاً حميماً بما
سبقها من الآيات التي تناولت الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من
النساء. وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام.. إن هذا لا يجيء اتفاقاً ومصادفة لمجرد السرد، ولا يجيء كذلك بعيداً عن جو السياق وأهدافه.. إنما هو يجيء في موضعه من السياق، ولحكمته في نظم القرآن..
إنها- أولاً- لفتة إلى لون آخر من الطيبات.. طيبات الروح الخالصة.. إلى جانب طيبات الطعام والنساء.. لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع. إنه متاع اللقاء مع الله، في جو من الطهر والخشوع والنقاء.. فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة؛ استكمالاً لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان.. والتي بها يتكامل وجود «الإنسان».
ثم اللفتة الثانية.. إن أحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب فليس هنالك «عبادات» وحدها و«معاملات» وحدها.. إلا في «التصنيف الفقهي».. وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي.. كلها «عبادات» و«فرائض» و«عقود» مع الله. والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله!
فالله الله .. كل آية في مكانها بمقدار و ميزان لا خلل فيه و و كل كلمة لها قيمتها و أهميتها لا لقفل الوزن أو ضبط النظم..
و لننظر معاً إلى الترتيب الإلهي و الدقة الربانية في شرح فرائض الوضوء للمؤمنين ابتداءً بغسل الوجه و غسل اليدين و تحديد المرفقين يليهما مسح الراس ثم غسل الرجلين في سياق لا مثيل له من الإيجاز و الوضوح ..
ويجدر بنا أن نذكر هنا ما قاله العلماء في قراءتي الجر والنصب في (وَأَرْجُلَكُمْ)
فالنصب دل على غسلهما عن كانتا مكشوفتين
و الجر عنى مسحهما إن كانتا مستورتين بالخفين
و في هاتين القراءتين الصحيحتين نهاية البلاغة و كمال الإعجاز و غاية الاختصار و جمال الإيجاز فكل قراءة بمنزلة آية و بذلك دلت الآية بهاتين القراءتين على حكمين متغايرين و لو لم يكن كذلك لاحتاج كل حكم إلى آية خاصة لبيانه .. فتبارك الله .
ثم تأملي معي أخيتي في منّة الله علينا بمشروعية التيمم .. فهو مشروع للمريض الذي يؤذيه الماء وإن وجد الماء, وللمسافر والمحدث إن لم يجد الماء..
فهل هناك أيسر من هذا الدين وأبسط من هذه الأحكام؟
و لفتتة أخرى إلى قوله جل و علا (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ) كيف انه تعالى كنى عما يستقذر لفظه بلفظ لا يؤذي السامع و يوصل المعنى على عجل فيا له من بيان لايرقى إليه بيان..
وانظري مرة أخرى إلى التعبير الرقيق(أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) الذي يكفي في صياغته و معناه عن أي تعبير مباشر و يصل بالمراد لقلب السامع مهما كان علمه و تحصيله .. فسبحان الله.
ويقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها. فالمنهج الإسلامي حريص على إقامة الصلاة؛ وإزالة كل عائق يمنع منها.. فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان.. كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية. إذ يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء.. لقاء العبد بربه.. وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب.. فيا لبيب انظر!
و لننظر معاً في ختام الآية الكريمة
(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
فالله تعالى ـ فيما شرعه لنا من الأحكام ـ لم يجعل علينا في ذلك من حرج ولا مشقة ولا عسر وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم وليتم نعمته عليهم, فطهارة الظاهر بالماء والتراب تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد والتوبة النصوح.
وطهارة التيمم وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى. فهذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات، وجميع البيئات، وجميع الأطور، بنظام واحد ثابت،
فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطوار؛ في صورة من الصور،بمعنى من المعاني؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تختلف في أية حال..
كتاب صالح لكل زمان و لكل مكان و لكل الناس لا لشيء فقط لأنه كلام رب العالمين و الحمد لله رب العالمين..
المصادر :بتصرف ..
تفسير السعدي
ظلال القرآن سيد قطب
دراسات في علوم القرآن الكريم فهد بن عبد الرحمن الرومي
الروابط المفضلة