كان يفترض أن تلحق نعمة بعائلتها بعد عدة ايام ... لكن وزارة الداخلية الاسرائيلية وما أدراك ما وزارة الداخلية ... لا يعرفون مواعيدا ولا نظاما ... يحبون إذلال الفلسطينيين ... طلعولها مليون مشكلة بهويتها ...
اما الاولاد فكل يوم كان لهم نزهة يقضونها في احد الاماكن ... قال الأولاد لأبيهم ذات يوم ... بابا شاورما القدس مش زاكية زي الشاورما اللي كنت تشتريلنا اياها هون ... خرج بهم عماد حيث المطعم الذي كان يشتري منه ... اشترى لكل منهم ساندويشتين ... كان يعلم أن الاولاد صغار بيشبعوا من اقل من ساندوش ..لكن هذا عماد وطبعه.. كريم جدا ...يكره ان يرغب ابناؤه بشيء فلا يحضره لهم ... مشوا في إحدى الحدائق العامة مساء ، يمسك كل منهم ساندوش الشاورما ... مروا بجانب رجل كبير ... ثيابه متسخة قديمة ... وجهه متسخ ، شعره طويل .. خاف الاولاد منه ... ركضوا حيث ابوهم ... انتبه عماد له ... قال لاولاده ... ليش خايفين ... ليش خايفين ... عمو ما بخوف ...
رآه عماد يجمع بقايا الطعام التي يتركها الناس في المنتزه ... خبز يابس ... علب عصير ... أسرع عماد نحوه واقترب منه بكيس الساندويشات التي بقيت ... الاولاد كانوا يرقبون عن بعد باستغراب ... أبوهم يتحدث مع رجل غريب ... عاد عماد وقد رفض الرجل أخذ الكيس ... حضن عماد ودعا له من كل قلبه ، لكنه رفض اخذ الكيس (عزة النفس لا تعرف فقيرا ولا غنيا) ... عاد عماد والحزن باد في وجهه ...
قال له اولاده : بابا ما خفت منو ...
نظر لهم عماد وقال : يا بابا هيك ناس ما بيخوفوا ... وعيب تحكوا هيك عن عمو ... الزلمة مسكين فقير ما معه مصاري ، بس معه اللي اغلى من المصاري ... عنده كرامة ... اه والله عنده كرامة ...
ترك عماد ابناءه يفكرون بهذه الجمل ... لم ينسوها يوما!!! ............
في احد الأيام كانت صفاء قد أعدت الطعام ، تنتظر عودة ابيها من العمل ( صفاء كان عمرها في ذلك الوقت 14 سنة فقطططط ) ... أعدت البامية مع اللحم ... اكلة يحبها عماد ، احبها من يدي نعمة فقط حيث لم يكن ياكلها في مدرسته الداخلية ولا عند جميلة ... كل شيء كان جاهزا ... وعاد عماد ... الفرحة والارتباك يعلوان وجهه ... همت صفاء بإعداد السفرة لكنه اوقفها وقال لها .. بعدين يا بابا .. بعدين ... أختك هدير حاكية مع عمي عادل ... وقال بدها تعيش معي ... بدي ادخل اتحمم (ياخد شاور يعني ) وحضريلي أواعي بسرعة .....
بسرعة كبيرة كانت صفاء قد حضرت لأبيها قميصا وبنطالا وجاكيت ( ملابس رسمية ) ... كان عماد قد اعتاد ارتداء بذلات عملية يفصلها عند صديق له ... لكنه رضي أن يرتدي هذه الملابس ... نظرت إليه صفاء ونسمة بعد ان انتهى من ارتداء الملابس ... أصبح له كرش صغير بعد ان كان هزيلا ... كثر الشيب في شعره ، وبدأت فروة راسه تظهر بما يسمى صلعة ... لكنه لازال وسيما رائعا ... وجهه لا زال يحمل كل معاني الطيبة والحنان والبراءة .... هجم عليه ابناؤه بحب ... شو هالحلاوة يا بابا ... ضحك عماد وتلقى من احمد رشتين من عطر جميل قبل ان يخرج متلهفا لفيلا عمه عادل حيث تنتظره هدير ....
بقيت اواني الطبخ كماهي ... سكبت صفاء لإخوتها اسماعيل وحنان واحمد .. وبقيت مع نسمة في المطبخ ... تجلسان على حافة المجلى ينظرون من النافذة المطلة على الشارع الرئيسي ليروا ويرقبوا عودة أبيهم مع هدير ....
قالت صفاء لنسمة : نسمة ... فكرك عنجد بتيجي هدير تعيش معنا ...
نسمة : والله ما بعرف ... يمكن .. شو عرفك .. أكيد عرفت إنو بابا طيب وبيحبهم ...
قالت صفاء : إزا كانت صادقة هي بتاكل معنا من البامية وبتنام عنا ... بنيمها على تختي والله .... أما إزا كانت كزابة متل سرين ورنا ورباب ... فالله لا يردها ... هي اللي بتخسر تعيش مع اب متل بابا ...
عاد عماد .... امتزج الحزن على وجهه بالغضب ... هدير ليست سوى فتاة تشربت حقد جميلة .. فكان أثره فيها كبيرا .. نعم كانت صغيرة عندما انفصل عماد عن جميلة .... ربتها جميلة ، وكانت سرين ورنا ورباب النماذج التي ترعرعت وسطها .. شو بدها تطلع يعني غير زيهم ...
لم يتحدث عماد عن الموقف ... ولم يساله أي من أبنائه ... وجهه البرونزي محمر من الغضب وعيناه محمرتان من الحزن ... ونام دون ان يأكل ..... التفاصيل سمعوها فيما بعد .... سأذكرها لاحقا بس تزكروا هالموقف منيح
اتفق ابناء عماد الخمسة أن ينسوا أباهم همه ... اجتمعوا ليخططوا ما يفعلونهم
صفاء 14 سنة
أحمد 13 سنة
نسمة 11 سنة
اسماعيل 9 سنوات
حنان 6 سنوات
اجتمع هؤلاء الأطفال ليلا ليصلحوا ما فعله البنات الأربعة وصغراهم هدير عمرها قد تجاوزت ال23 عاما وربما اكثر ... اتفقوا ان يكثروا من نكتهم ولعبهم مع ابيهم ... يلهونه بأشياء اخرى ... ( قرارات خطيرة ما شاء الله )
نجح الأطفال بعض الشيء ... تناسى عماد بناته .. ظللن على لسانه ينادي بهن حنان ونسمة وصفاء ...
مر أكثر من 10 أيام ونعمة لم تنته من تجديد هويتها ...
صفاء كسر اصبعها ... يدها تورمت والألم شديد ... وشغل البيت كلو تقريبا فوق راسها ....
جنت نعمة عندما علمت ... ما أن استلمت هويتها بعد التجديد حتى سافرت في نفس اليوم للأردن .... والتم شمل العائلة ... وعادت الأيام إلى سابق عهدها ...
خرجت العائلة في يوم من الايام عصرا ... للسوق ، اشتروا الملابس والألعاب ، وتوجهوا لمطعمهم اللبناني ، لمحل الكنافة ... ثم إلى منزل عمتهم .... ثم إلى المنتزه القريب من منزل عمتهم عبير ...
وأثناء العودة للمنزل .. ركبت العائلة في حافلة .. جلسوا في المقعد الخلفي الطويل .. والله دون مبالغة ، السعادة كانت باينة على وجوههم ، حتى انهم لما دخلوا ، كل اللي بالحافلة يتطلعوا فيهم ويتابعوهم بانظارهم ...
نسمة احست بالنعاس .... بدأ رأسها ينزل للأسفل فترفعه بحركة سريعة ... ضحك أبوها ...أعادها للخلف ووضع رأسها على صدره .. وحضنها بيده ... أمها رفعت ساقيها ووضعتهم في حجرها ... فكانت نسمة تنام في أحضان امها وابيها معا ... إحدى الفتيات الصغيرات في عمرنسمة تقريبا كانت تجلس في الأمام في الحافلة ... تلتفت حيث نسمة كل دقيقة .. نسمة نسيت نومها واخذت تنظر لها ، ولسان حالها يقول ... طقي موتي أنا نايمة بحضن امي وأبوي ... شوفي ما احلانا .... ( عمايل الصغار )
.......... كانت هذه مذكرات العائلة في يوم سعيد واحد ......
وهنا مواقف أخرى من الإجازة السعيدة
في احد الأيام كانت بعض الجارات يجلسون عند نعمة يتذكرون ايام زمان ، ايام العيد وتنظيف العمارة ، عمل الكعك والمعمول مع بعض ، مساعدة بعضهم البعض في العزائم والمناسبات ، ذكريات سعيدة رائعة ، وحياة بسيطة يصعب ان نجدها في عصرنا ...
ذكر الجار الذي تجسس على بيت أبو احمد ... قالت الجارات لنعمة أن أبو ماهر ( الجار المتجسس ) تم القبض عليه في العمارة المجاورة ، يتجسس على بيت العريس الجديد الذي سكن حديثا .. العريس لاعب كراتيه وملاكمة ... أمسكه ودق على جميع الأبواب ، أراهم اياه ، وأخبرهم عن افعاله ... اسود وجه أبو ماهر ، طلب الجيران الشرطة ، القي القبض عليه هو وابنه بعد ان حاول الدفاع عنه ... ابنه هذا كان يضرب صفاء ... صفاء خطها جميل جدا اقرب للتخطيط منه للكتابة .. كانت تخط آيات قرآنية على الجدار على السطح ... فيمحيها ماهر بحذائه ... فتجن صفاء وتبكي وتصرخ عليه ، تهدده ان الله سيضعه في نار جهنم فيضحك منها ويبتعد ...
الحقيقة ان مشاعر نعمة كانت مختلطة ، فمن جهة تبين انهم كانوا صادقين ونال هذا الجار جزاءه ومن ناحية اخرى كان الحزن يملؤها ... الجار منع من مغادرة منزله ...
سالت نعمة : متى صار هالحكي ... قيل لها من سنة ونص يمكن ...
نعمة : والله عماد ما قاللي
عماد ... لم يكن يعلم ما حدث ، رغم الضجة التي حدثت في الحارة ، لكن اعتزاله في غرفة المعيشة بعيدا عن الشبابيك والغرف المطلة على الخارج منعه من سماع اي صوت ...
تفاجا عماد مما قالته له نعمة ... وكانت مشاعره مشابهة لمشاعر نعمة ، فالجار هذا كان في احد الايام أكثر الجيران قربا من عماد ...
في احد الأيام كانت صفاء تستحم ، نسمة تنتظرها حتى تخرج معها للسطح ليجلسوا مع صديقاتهم من بنات الجيران ... دق الباب ...
عماد يمسك أحد الكتب يقرأه في غرفة المعيشة ... حنان تلعب مع صديقاتها عند الجيران .. أحمد واسماعيل يلعبون بطيارة ورقية صنعها لهم عماد مع أصدقائهم أمام العمارة ...
فتحت نسمة الباب ... أمام الباب كانت تقف ابنة الجيران .... ابنة أبو ماهر ... كانت فتاة سمراء ناعمة ... كانت تقف بتردد ... راتها نسمة ففرحت ... وهتفت ( منى ، كيفك ... ) منى تشجعت قليلا وسلمت على نسمة وحضنتها كانت تكبرها بخمسة اعوام ، سالتها عن صفاء وطلبت منها ان تطلعا للسطح وتجلسا معها ... اغلقت نسمة الباب ، ثم ذهبت لتلبي نداء أبيها ... قال لها عماد : مين اللي دق الباب ...
ترددت نسمة قليلا قبل ان تجيب : هاي منى بابا ، بنت جارنا أبو ماهر ...
نظر لها عماد برهة ثم ابتسم ودعاها لتجلس قربه ...
قال لها : وليش خايفة ... شو بدي آكلك
نسمة : .....
عماد : يا بابا ، البنات هدول مناح ، ,إزا أبوهم عمل خطأ مش معناتها إنكم تبطلوا صاحبات معهم ... ماشي ... بس تطلع صفاء بتطلعوا على السطح وبتقعدوا معها ...
وقفت نسمة وعانقت اباها ... قبل عماد جبين نسمة بعد أن أبعد شعرها المنسدل على جبينها بيديه الاثنتين .... حركة طالما قام بها ، لم يكن يحب الغرة والشعر المنسدل على الجبين ، كان يقول أنه يريد ان يرى وجههن الجميل كله دون ان يغطيه الشعر وان يستطيع تقبيل رؤوسهن دون ان يواجهه أي عائق ...
قبل عماد راسها ثم قال لها ... ( اقعدي بدي أحكي معك كم كلمة )
جلست نسمة .... فقال عماد :
يا بابا ... انتوا ما شاء الله عنكم حلوين وشاطرين واذكياء ... بس بعمركم يا حبيبتي ما تشوفوا حالكم على أي بني آدم ... ما تحسسوا أي حد إنكم احسن منه لو شو ما صار ... التكبر يا بابا مش حلو ، بينفر الناس من بعضها ... التواضع حلو ... والله حلو ... المتواضع كل الناس بتحبو .. والله بحبه وبيوفقه ...
بعدين يا بابا ... بعدي عن الكزب ، حتى لو كان الصدق بيعمللك مشاكل ... الكزب يا بابا خطير ... بكرة بتكبري وبتعرفي شو الدنيا وبتعرفي إنو الكزب ما بيدخل باي شي إلا بيخربه ....
قدم عماد نصائح لابنته ، نصائح رائعة لا زالت تذكرها حتى الآن ... حذرها من التكبر والكذب ، من إيذاء الآخرين ... ونصحها بالتواضع والصدق ، حب إخوتها ... الصبر ....
وختم نصائحه بقوله : يا بابا انتي يمكن ما فهتمي كل شي قلته ، بس بكرة لما تكبري وتصيري صبية بتفهمي ... ولما أموت يا بتقولي الله يرحمه كان كلامه صحيح ، او بتقولي الله يرحمه كان يتهبل ....
قضبت نسمة حاجبيها ... وقالت له : الله يطول عمرك ، كل كلامك صح .... جواب سريع من ابنة 11 سنة ... ابتسم أبوها ابتسامة ذات مغزى .... ثم قال لها .. هي صفاء خلصت .... البسوا شي دافي واطلعوا عند البنت بتكون تستناكم ....
بعد أسبوعين من لحاق نعمة بعائلتها تبعها اخوها علاء .... معه زوجته ... كان قد مر 11 عاما على زواجهم ولم يرزقوا بابن واحد ....
وهناك في الأردن ، كانوا يجرون بعض الفحوصات المتعلقة بالحمل عندما اكتشفوا أن زوجته في بداية حملها ... فرحة أخرى تدق أبواب العائلة .. علاء أخو نعمة الذي ربته سيصبح ابا اخيرا ...
انتهت الإجازة ... وتشتتت العائلة من جديد ... عادت نعمة والأولاد إلى القدس مع خالهم علاء يحملون في صدورهم وعقولهم ذكريات أجمل أيام حياتهم ..... وبقي عماد في الاردن ليعود لوحدته مرة اخرى !!!...
في المرة القادمة إن شاء الله ..
واخيرا تنتهي أيام التشتت .... فهل تصبح حياة الأسرة سعيدة
الروابط المفضلة