كَالْبَلْسَـمِ الشَّافِـي

كانت تأكلُ مع ابن أختِها ذي الأربع سنوات ، فلاحظت أنَّه لا يُقبِلُ على صنفٍ مُعيَّنٍ مِن الطعام ، فسألته عن السبب ، فقال : لا أُحِبُّه .

قالت : طعمُهُ لذيذ ، كُل مِنه . قال : لا أُحِبُّهُ .
فسكتَت قليلاً ، ثُمَّ قالت : سآكُلُه وحدي ؛ كيْ أكبُر ، ولن أترُكَ لَكَ منه شيئًا .
فسألَها : هل هذا الصِّنفُ سيجعلُني أكبُر ؟



قالت : نعم .

فقال : لا تأكلي معي ، سآكُلُهُ أنا .
وبدأ يأكُلُ منه .

ثُمَّ وقف ، وقال : لقد كبِرتُ ، انظري .
فشجَّعته ، وقالت له : ما شاء الله ، أكلتَ هذا الصِّنفَ من الطعام ، فكبِرت ، أكمِله كيْ تكبُرَ أكثر ، فأَحَبَّهُ ، وصار يأكُلُ مِنه .

وهـذا يرى حفيدَه يُشاغِبُ ، ويَصرخُ ، ويكسِرُ الأشياءَ في البيت ، فيغضبُ ويرفعُ صوتَه عليه ، بل ويكادُ يضربُه ، فيزدادُ الطفلُ في المُشاغَبَة ، ثُمَّ يُغيِّرُ الجَدُّ مِن لَهجتِهِ ، ويُنادي حفيدَه بكلماتٍ طيبة : يا محمد ، يا حبيبي ، يا قمر ، افعل كذا ، فيسمعُ له الطفلُ ويستجيب .

وهـذه في العاشرةِ مِن عُمُرها تقول : أنظرُ إليها مُبتسمةً ، فلا تبتسِمُ ، وتَعبَسُ في وجهي .

وأُخرى تقول : أُلاطِفُها ، وأُعطيها البسكويتَ والحَلوى ، فتُحِبُّ المسجدَ ، وتأتي لتحفظَ القُرآن .

وتقول : لِمُجَرَّدِ أنْ نصحتُها ، وبيَّنتُ لها حُكمًا مُعينًا ، عَبَسَت في وجهي ، وقَطَعَت عِلاقتَها بي ، وحذفَت بريدي ، ورقم جوَّالي ، رغم أنِّي نصحتُها بلُطفٍ ولين ، ولم أجرحها بكلمة .

الكلمةُ الطيبةُ كالبَلْسَم الشَّافي ، إذا وقعت على الجُرج ساعَدت على شِفائه ، وعلى سُرعةِ التئامِهِ .

الكلمةُ الطيبةُ لها مفعولٌ عجيب ، فأثرُها يدومُ على مَرِّ الأيام .

كم مِن كلمةٍ طيبةٍ أسعدت أُناسًا ، ورَسَمَت على شِفاهِهم البسمة ، رغم ما يُعانون مِن آلام ، وما يجدون مِن مَشاقّ ومصاعِب .

وكم مِن كلمةٍ طيبةٍ كانت سببًا في نجاح أشخاصٍ في حياتِهم الزوجية أو الاجتماعية أو العمليَّة .

وكم مِن كلمةٍ طيبةٍ كانت سببًا في استقامةِ أشخاصٍ على طريق الطاعة والالتزام .

وكم مِن كلمةٍ طيبةٍ أفرحت طِفلاً ، فحَفِظَها وعَمِلَ بها ، فسَعِدَ في حياتِه .

كم مِن إنجازاتٍ تحقَّقت بكلمةٍ طيبة .
وكم مِن مُشكلاتٍ حُلَّت بكلمةٍ طيبة .
وكم مِن خِلافاتٍ تلاشت بكلمةٍ طيبة .
وكم مِن نجاحاتٍ كانت بسببِ كلمةٍ طيبة .
وكم مِن طموحاتٍ زادت وعَلَت بكلمةٍ طيبة .

الكلمةُ الطيبةُ كقطرةِ النَّدَى حين تقعُ على الزَّهرةِ في الصَّباحِ ، فتُعطيها رَوْنقًا وجَمالاً .

الكلمةُ الطيبةُ ككأسِ الماءِ حين يشربُه العَطِش ، فيرتوي .

الكلمةُ الطيبةُ كالماءِ حين ينزِلُ على الأرضِ القاحِلَةِ ، فيُحَوِّلُها لمُروجٍ خضراء ،
وأشجار وارِفة ، وثِمَار يانِعة .

الكلمةُ الطيبةُ كالعسلِ في حلاوتِهِ ، وكالرَّيْحانةِ في رائحتِها ، وكالحريرِ في مَلْمَسِهِ .

( والكلمةُ الطيبةُ صَدَقَة ) مُتَّفَقٌ عليه .

ولو صاحَبَت تلكَ الكلمةَ ابتسامةٌ رقيقةٌ ، لازدادت جمالاً وبريقًا .

كم مِن أُناسٍ نراهم لا يبتسِمون ، يَظُنُّونَ الحياةَ لا مجالَ فيها للضَّحِكِ والمَرَح .
وكم مِن أُناسٍ مُحِيَت مِن قوامِيسِهم الكلمةُ الطيبة ، فلا ترى الواحِدَ منهم إلَّا شاتِمًا سابًّا مُستهزِئًا نمَّامًا مُغتابًا كذَّابًا .
إذا ابتسمتَ في وجهِهِ عَبَس ، وإذا عَبَستَ غَضِب ، وإذا مازحتَه استثقلَكَ ، وإذا تودَّدتَ إليه نَفَرَ مِنك ، وإذا أحسنتَ الكلامَ معه لم يتأثَّر ، واستمَرَّ في مُعاملتِهِ السيئة .

وكثيرٌ مِنَّا – للأسفِ – يَحكُمُ على الآخَرينَ بمُجرَّدِ النظرِ إليهم مِن بعيد دُونَ الاقترابِ منهم ، أو معرفةِ شئٍ عنهم ، أو مِن مُجرَّدِ السَّماعِ مِن هُنا وهُناك .

والحقيقةُ أنَّه لِكَيْ تحكُمَ على شخصٍ ، لا بُدَّ أن تُعاشِرَه ، وأن تقتربَ منه ، وتتحدَّثَ معه ، وتستمعَ إليه ، وتُحاورَه ، وليس مُجرَّد النظر فقط .

فكم مِن أُناسٍ كُنَّا نسمعُ عنهم كلامًا سيئًا ، وعندما اقتربنا منهم ، وجدناهم على العكسِ مِن ذلك .

وقد يختلفُ الحُكمُ مِن شخصٍ لآخَر ، لكنْ علينا ألَّا نظلِمَ الآخَرين ، وألَّا نحُكمَ عليهم دُونَ سابِقِ معرفةٍ بهم .

ولنكُن مُبتسمين في وجوه الجميع ، ناطقين بالكلماتِ الطيبةِ الرقيقةِ الحَاثَّةِ على الخير .

قد تُوجَدُ عندنا الهُمومُ والآلامُ والأحزانُ والمصاعِبُ ، لكنَّ الشخصَ الفَطِن مَن لا يُظهِرُ ذلك لِمَن حولَه ، ويُعاملهم بصورةٍ طبيعية ، فلا يَعبَس في وجوهِهم ، ولا يُسيءُ الظَّنَّ بهم ، ولا يتكلَّمُ بكلماتٍ سيئةِ في حَقِّهِم . هو مَن يتصدَّقُ باليسير ، بكلمةٍ طيبة ، وقد قال نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( تبسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ لَكَ صَدَقَة ) صحيح الجامِع .

فلنحرِص – أخواتي – على أن تكونَ كلماتُنا طيبةً ، مصحوبةً بابتسامةٍ رقيقةٍ ، ولنحتسِب الأجرَ في ذلك ، ولنعلم أنَّه لن يبقى لنا في هذه الدنيا إلَّا الكلمةُ الطيبةُ والعملُ الصالِح .

وليعذُرنا الآخَرونَ إنْ أخطأنا أو نسينا ، فكُلُّ البَشَرِ يُخطِئُ ، وليس هذا عيبًا ، لكنْ العَيْب هو التَّمادي في الخطأ وتبريرُه ، وعدمُ قبولِ الحَقِّ ورَدُّه .

وأخيـرًا أُذَكِّرُ بقولِ اللهِ جلَّ وعَلا : ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) النور/22 .
بلَى ، كُلُّنا نُحِبُّ المغفرةَ والعفوَ مِن رَبِّنا سُبحانه وتعالى .
إذًا ، فلنعفُوا عن غيرنا ، ولنُصافِح ، ولنُسامِح ، عسى أن ننالَ هذا الفضلَ العظيمَ مِن اللهِ عَزَّ وجَلَّ .

/ كلماتٌ شرَّقَت وغَرَّبَت /
الساعية إلى الجنة

مساء الخميس 24 رجب 1433 هـ
14 يونيـــــــو 2012 م

قد يعجبك أيضاً ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *